د. إيمان ضاهر تكتب: "قراءة في الكتاب الأسود للإبادة في غزة"
الكتاب الأسود للإبادة الجماعية لغزة يوثق سنة من الجحيم بلا مخرج للحرب الهمجية.
تقول انياس ليفالو: "في هذه المرحلة إنه نطهير عرقي، كسر جدار الصمت، لكل إبادة جماعية فهي إبادة إنسانية وكل جريمة قتل هي انتحار. صراع مؤلم يسبب لنا الشعور بالذنب بسبب العجز الذي يلم بنا، في مواجهة الرعب الذي يتجسد بوحشية أمام أنظارنا كل يوم.
أليس هو الواقع المرير المظلم لغزة الذي سيظل يحفر بحجار سوداء في التاريخ وإلى الأبد. "الكتاب الأسود" عمل مقاومة إنسانية ضد لا مبالاة الإنسانية. تجمع "انياس لوفالو" المتخصصة في شوؤن الشرق الاوسط واستاذة في العلوم السياسية في جامعة باريس٢، تقارير ذات اهمية قصوى من المنظمات غير الحكومية الدولية والفلسطينية والاسرائيلية وايضا تحقيقات واقعيةثمرة عمل مهم لصحفيون فلسطينيون... أليست هذه الحرب الأكثر فتكا وتدميرا في العصر الحديث؟ ما المقصود من الكتاب الأسود لغزة، هل يشير اصابع الاتهام على السبب أو المبرر؟ وهل يعقل تخيل هذه المجازر التي تؤدي إلى ضحايا لايمكن حصرها أبدا ليس المغزى من كتاب غزة الأسود أن يكون عملاً معلوماتيًا، بل مرجعية للفهم، ونداء صارخ واليم للتفكير النقدي، واستئناف للتعبئة ضد الظلم. لذلك تم بناء هيكله بشكل مدروس ومقصود لإحداث تأثير على القارئ وتشجيعه على التصرف. دعونا لا نتصور العجز: فالمسؤولية العالمية، وهي مبدأ فلسفي صلب، تثبت ان كل انسان كمواطن في هذه الدنيا يملك الحس الاخلاقي والطاقة على السلوك بمنطق واقعي ومرئي، ضد المظالم الدولية، وبالتالي تخطي الحدود والاخفاق الفاضح في العالم في مواجهة التحديات العالمية.
سبعة أقسام مواضيعية توضح بدقة الجوانب المختلفة للدراما التي يعيشها سكان غزة: الاختناق المتدرج لمنطقة تحت الطوق والحبس، وانهيار الضمان الصحي والقتل الممنهج للمدنيين والعنف المفرط للاسلحة الفتاكة المستخدمة والاخفاء المدروس للضحايا، التدمير المنهجي للبيئة، وللاسف لكل افاق المستقبل، ثم التزييف بالمعلومات والقضاء على الصحافة (وهو مافعلته بلدية بربينيان التابعة للإذاعة الوطنية في القيام به من خلال رفض منح جائزة لمصور صحفي فلسطيني لأدلة مزورة) ماذا توضح هذه البنية العلمية؟ تتيح هذه البنية العلمية إمكانية مقارنة التحليلات، وإعطاء صوت لأصوات متنوعة وكشف مدى تعقيد الواقع. يتجلى الكتاب مثل مقطوعة موسيقية حيث تتلائم النغمات المنخفضة للشخصيات، والتقارير مع اللحن الحزين للشهادات الفردية، والقوة المؤثرة لبعض التحليلات الجيوسياسية، مما يتبين إدانة عنيدة ضد عنف الكيان، واللامبالاة للعالم. بالطبع، لا يهدف العمل إلى التقليل من القوة الدفاعية التي تمتلكها حماس - بل ، فهو يوثقها بدقة ووضوح ، ويسلط الضوء على الهجمات الانتحارية ويبررها كدفاع عن الارض المحتلة.
لكن التبرير لكل هذه الدفاعات منطقي هنا، هو قبل كل شيء الفرق الهائل بين القوى الموجودة. هناك مقاومة مسلحة وتنعم بقوة محلية، ولكن ينقصها العتاد العسكري المبتكر، والجيش المجهز، بأحدث الدعائم اللوجستية والسرية، والديبلوماسية الضخمة من الولايات المتحدة وأوروبا ويحلل الكتاب هذا التغاير استناداً إلى أرقام هائلة لعدد الضحايا المدنيين، والبنية التحتية المدمرة، والمدارس والمستشفيات التي باتت رمادا بحجة "الضربات المستهدفة". إن قراءة هذه الفصول أمر مثير للدهشة: فهي تظهر للعيان عن آلة حرب جشعة لا هوادة فيها، تسير باستراتيجية عنيفة لايشوبها اي اعتدال أو تناسب. ونحن نتساءل عن منطق "أهون الشرين" الذي يحكيه الجيش الإسرائيلي، والذي يشير أنه يقلل من الخسائر المدنية، في حين انه ينزل بأهل غزة الدمار الشامل. ويركز كتاب غزة الأسود أيضًا على الاتجاه النفسي لهذه الحرب. وتنوه بالكلمات المروعة التي قالها يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي وصف سكان غزة بأنهم " حيوانات بشرية ". وأليس هذا الوصف اللانساني لاهل غزة من مبادىء تاريخ اليهود وحاليا يتردد بصورة لافتة ومخيفة؟. إن الخطاب الإسرائيلي الرسمي، بعيداً عن مجرد استهداف حماس، يهاجم وجود غزة ذاته كمجتمع بشري. ويصبح السكان المدنيون مثل أضرار جانبية مقبولة في"الحرب على الإرهاب". ونصغي لهذا الخطاب في بعض تصريحات المسؤولين الغربيين، على أهبة الاستعداد لتبرير ما هو غير مبرر باسم الحرب ضد التطرف. الكتاب الأسود لغزة، أليس شهادة لما لايوصف؟ في مواجهة "الهجوم في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ وهو" هجوم لا يستهان به، "أراد الكيان الإسرائيلي الدفاع عن نفسه ضد هجمات حماس" كما يزعمون.وتزعم لجنة الشؤون الخارجية الفرنسية، "إن عنف حماس ليس له مبرر( علما ان التبريرات لاتعد ولاتحصى لشعب محتل يرزح تحت اهوال الاستبداد، الحرمان، والظلم) ، ولكن ليس بلاسبب". ملاحظة منطقية، غالبًا ما يتم تجاهلها، بل يتم تجريمها كمبرر للإرهاب» ومع ذلك، هل هذا الحق يخضع من حيث المبدأ للقانون الدولي، الذي يفرض قيودًا على استخدام القوة؟. إن جرائم الحرب في غزة والان في لبنان، وعلى الرغم من اختلاف النزاعات، فهي ليست فقط تراجيديا انسانية في العصر الحديث، انما تعتبر سلبا صارخا لهذا القانون الدولي، الصادر في ٢٦ كانون الثاني٢٠٢٤ والذي تمردت عليه وانتهكته باكمله دولة اسرائيل، ولاتزال. دون الاكتراث لقضاء المحكمة الجنائية. او لقرارات الامم الثلاثين.
ولا يزال الانتقام الأعمى، والدمار الشامل، مشروعين في تأجيج دوامة العنف والكراهية، مما يستحيل الوصول إلى السلام، كما قال هنري كيسنجر: " ما هو غير قانوني، نفعله على الفور، غير دستوري، ونحن نفكر في ذلك". الغموض للرؤية القاتمة للحرب... منذ الصفحات الأولى، أذهلنا حجم مشروع أنييس ليفالوا: إن الإبلاغ عن حدث بهذه القوة، في منطقة تخضع لرقابة مشددة ومغلقة ومحكمةأمام الصحافة الدولية، هو بمثابة جولة حقيقية من الصلابة. الم تضع المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط نفسها كمسؤولة عن أرشيف المذابح في غزة، وكحارسة للذاكرة الجماعية التي ترفض السماح لها بالغرق في غياهب النسيان، أو أن يتم تشويهها من خلال الروايات المبسطة للجغرافيا السياسية ؟. اليس هذا تفوق هذا الكتاب الجماعي: فهو يحثنا على رؤية الواقع لغزة وجهاً لوجه، سواء في حياتها اليومية التي لا تطاق، أو في اهوال مأساتها. في صميم صراع اتسم بالدعاية المكثفة والتلاعب بالمعلومات، يبرز كتاب غزة الأسود كنقطة مقابلة ضرورية، والبحث عن الحقيقة في عمق ضباب الحرب. والهادف إلى الترسيخ المنهجي للعنف الذي يتعرض له السكان المدنيون الفلسطينيون ومرجعية مصادر لا جدال فيها: تقارير المنظمات غير الحكومية مثل منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ومنظمة أطباء بلا حدود، ومراسلون بلا حدود، واستطلاعات آراء خبراء مستقلين وشهادات الصحفيين الذين يتعرضون للخطر. في حياتهم للإبلاغ عن الرعب اليومي. ولذلك يبرز العمل عن القصص المانوية، والتهميش الإعلامي، والعاطفية السهلة. يتم الاختيار بموضوعية جراحية: يتم اظهار العنف دون تزييف أو تهاون، من خلال برودة الأرقام ودقة التقارير والقوة الخام للشهادات، مما يسهل للقارئ حرية الحكم واعتماد الرأي الخاص به. كما يسلط الكتاب الأسود الضوء على أهمية توثيق الجرائم المرتكبة في ظلال الصمت، ليس فقط لتوفير العدالة للضحايا، ولكن أيضا لمنع الإفلات من العقاب من أن يصبح هو القاعدة والنسيان من السقوط على الوعي الجماعي. إنه عمل مقاومة ضد المحو، عمل الضحايا، عمل الذاكرة، عمل المقاومة لاجل الهوية الفلسطينية المشروعة. كيفية إحصاء الأصوات. يعتمد كتاب غزة الأسود على ثراء وتعقيد وجهات النظر التي تم جمعها. ليست قصص المنظمات غير الحكومية الغربية وحدها هي التي تثري هذه الصفحات، بل أيضًا أصوات المنظمات غير الحكومية الفلسطينية والإسرائيلية، والمحللين والخبراء من مختلف الآفاق الجيوسياسية، الذين يقدمون مجموعة من وجهات النظر المفيدة بقدر ما هي ضرورية. في الكتاب الأسود لغزة، يقدم كل مساهم وجهة نظر فريدة وأساسية لفهم الصراع، مما يثري العمل بتنوع زوايا التحليل. على سبيل المثال، تسلط المساهمات المتعلقة بحقوق الطفل الضوء على الأثر المدمر للحصار والقصف على الفئات الأكثر ضعفا، وتعرض تفاصيل المعاناة النفسية والجسدية للشباب في غزة. وتركز نصوص أخر على الأثر الإنساني، وتسلط الضوء على الصعوبة التي تواجهها المنظمات غير الحكومية في الوصول إلى السكان المعزولين عن العالم وتوثيق الانتهاكات الصارخة للقانون الإنساني الدولي. وأخيراً، يضع التحليل الجيوسياسي الوضع في غزة في سياق أوسع، موضحاً كيف يتم التعبير عن هذا الصراع مع ديناميكيات القوة في الشرق الأوسط، والمصالح الاستراتيجية الدولية، وألعاب التحالفات التي تخلد دوامة العنف هذه. لتسهيل الأصوات التعددية لرسم صورة حقيقية ودقيقة للواقع على الأرض.
ومن يتحدث ولمن هذه الأصوات ليست حماس التي تتحدث هنا، ولا السياسيين أو المسلحين بل هم المدنيون العاديون: الأمهات والمعلمون والطلاب الذين يوثقون كيفية الابقاء على بعض معالم الحياة الطبيعية وسط الرعب. يعبرون عن صعوبة إرسال الأطفال إلى المدارس و يمكن أن ينهار كل مبنى في أي لحظة، وعن استحالة العثور على عمل عندما يخنق الحصار الاقتصاد، وعن ألم دفن أحبائهم دون أمل في العدالة. أليست غزة سجن في الهواء الطلق بين البحر والجدار الأمني؟ الكتاب لا يعرض فقط مجموعة حقائق، بل يشكك في الأسباب الجذرية للعنف، ويمهد المجال أمام التفكير في المصاعب التي تواجه تحقيق سلام عادل ودائم: الافتقار إلى الثقة المتبادلة، والتطرف المتزايد، والتقاعس المتواطئ من جانب المجتمع الدولي، ولا سيما الدول الغربية، الداعمين لاسرائيل. ويهدف النص أيضًا إلى أن يكون انعكاسًا لطرائق المعلومات في أوقات الحرب. يتم تحليل استخدام الشبكات الاجتماعية: فهي تلعب دورًا غامضًا في الصراع من خلال السماح بنشر المعلومات الخاضعة للرقابة والانتشار السريع للدعاية والأخبار الكاذبة. بعد عام واحد من الهجوم الذي شنته حماس ضد إسرائيل والرد العنيف لجيش الدفاع الإسرائيلي، أصبح العمل الجماعي، الذي قامت بتنسيقه أنييس ليفالوا ـ نائبة رئيس معهد أبحاث ودراسات الشرق الأوسط في منطقة البحر الأبيض المتوسط ـ أشبه بنصب تذكاري من ورق ضد النسيان. "كتاب غزة الأسود" - العنوان المثير للذكريات لنوع أدبي ولد من رماد المحرقة، ثم استخدم لتوثيق عمليات الإبادة الجماعية في كمبوديا ورواندا - ألا يهدف إلى أن يكون حارسا لذاكرة هشة؟ ذاكرة الشعب الفلسطيني الذي يتألم. إن دولة إسرائيل ترغب في محو، ليس فقط المعاناة، بل الوجود ذاته. هذا الكتاب الأسود هو عمل شاق، شاق، ومرهق في بعض الأحيان. ومن خلال مواجهتنا لمسؤوليتنا، وإنسانيتنا في مواجهة غير المقبول والظلم، يجب ألا نقرأه فحسب، بل أيضًا سماعه وفهمه. يتحدانا هذا العمل: ماذا لو كانت اللامبالاة أسوأ أنواع الإبادة الجماعية؟ النسيان أعظم انتصار للظالم؟ لقد خسر مرتكبو الإبادة الجماعية بالفعل المعركة ضد النسيان.. ستكون مقاومة ذاكرتنا هي الأقوى.



