عاجل
الخميس 16 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
مذهب الملوخية

مذهب الملوخية

أعدتُ قراءة كتاب "وداعاً للطواجن" للساخر الكبير محمود السعدني، لا طلباً للتسلية هذه المرّة، بل بحثاً عن خيوط الحنين التي نثرها بين السطور كما تُنثر الكزبرة على وجه الملوخية الساخنة.



خرجت من هذه القراءة على يقينٍ بأن السعدني، وإن غلّف كلماته بالسخرية، كان يكتب عن أعمق ما في الإنسان: عن البيت، عن الدفء، عن الطفولة، عن الزمن الذي كانت فيه المائدة مرآة للطمأنينة، وكان الطاجن بياناً يُلقى باسم المحبة.

 

ورغم أن الأطباق التي ذكرها “العبد لله” في كتابه ليست مألوفة في بلدي، فقد شعرتُ أنني أعرفها، لا بذوقي، بل بذاكرتي. كأنني شممتُ رائحة الملوخية وهي تغلي على النار، لا كطبقٍ، بل كحكاية. رأيتُ مرقة الضأن، التي يقول إنها تهزّ قلب الكافر، تفيض من الوعاء كإيمان فطري، وتعرفتُ على كباب الحلة الذي يجعل المرء يُقبّل يده ظهراً وبطناً، لا لأنه لذيذ فحسب، بل لأنه يوقظ فيك ما أطفأه التعب.

 

 

أما البطاطس التي احترقت أطرافها قليلاً، فليست ناتج إهمال، بل توقيعٌ سري على الوصفة، أثرٌ ليدٍ تُحب ولا تقيس بالمِلي. وقطع اللحم المغروسة كالعسلية في زوايا الطاجن ليست مجرد لحم، بل تذكارات مشبعة بالطمأنينة. حتى الطماطم التي تغوص وتطفو بدت وكأنها تلهو فوق سطح البحر، لا سطح المرق.

 

 

وسلطانية الطرشي ليست مقبّلات، بل مؤسسة وطنية. حين يصفها السعدني بأنها “حُكم صادر من المحكمة العليا”، فهو لا يمزح. بل يؤكد أن لهذا الطبق سلطته؛ لشرائح الفلفل والخيار واللفت والليمون وعروش الكرنب سيادة لا ينازعها أحد. أما عروق الجرجير التي تحيط بها كما لو كانت حرس حدود، فهي لا تدافع عن صحن، بل عن فكرة، عن تاريخ، عن كيانٍ بيتي لا يُمسّ.

 

في كل هذا، لم يكن السعدني يكتب عن الطعام، بل يُقاوم به. يُقاوم زمن العلب المجمّدة، والطعام المعقّم، والوصفات الخالية من الروح. كان يدافع عن البيت، لا كمكان، بل كحالة وجودية. وعن الأم، لا كربّة منزل، بل كراوية أسطورية. وعن أكل البيت، لا كغذاء، بل كذاكرةٍ حارّة تُورّث ولا تُنسى.

 

 

ما كتبه السعدني ليس أدب طعام، بل أدب وطنٍ صغير اسمه البيت. ملوخيّته ليست وصفة، بل مذهب. وطواجنه ليست أطباقاً، بل أوطانٌ مصغّرة. ووداعاً للطواجن ليس وداعاً حقيقياً، بل رسالة سرّية مفادها: لا تتركوا ما يُشبهكم.

 

لقد كان محمود السعدني، بطريقته الخاصة، أحد الكبار الذين جعلوا من السخرية فناً راقياً، ومن اليوميات البسيطة مرآةً لوعي الأمة. جيله من الكتّاب والصحفيين لم يكن يكتب من برجٍ عاجي، بل من قلب الناس، بلغتهم، ومن عمق ثقافتهم الشعبية. كانوا شهوداً على زمن، وصوتاً لذاكرة، ورُعاة لوعيٍ لا ينقرض.

 

حمى الله مصر، منبع الفكر العربي، وملاذ الكلمة حين تتيه.

 

كاتب وباحث صومالي في الأدب والفن والفلسفة

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز