عيسى جاد الكريم
ثورة 23 يوليو.. ثورة الهندسة المصرية
تتجدد الذكريات كل عام في ذكرى ثورة 23 يوليو 1952، ولا تقتصر نتائج هذه الثورة على الجانب السياسي فقط، بل تمتد لتشمل الجانب العلمي. كنت ولا زلت واحدًا من المغرمين بثورة 23 يوليو العلمية والهندسية، ومبهورًا بمشاريعها الهندسية التي رأت النور، بداية من برج القاهرة، أعظم الأعمال الهندسية المعمارية الأيقونية في الستينيات، وحتى السد العالي، أعظم مشروع هندسي على النيل لتوليد الكهرباء في القرن العشرين. كنت مشدودًا منذ صغري لاقتناء الكتب التي تصور الأدوات الهندسية الدقيقة والضخمة. كنت أشتري المجلات التي كانت تصدر (المهندسين_المهندس) ولا أعرف أين اختفت الآن. كنت مبهورًا بما حققته ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية من طفرة ضخمة في مجال الهندسة مكنتها من التوسع ومواجهة كل القوى. فرغم حلمي بأن أكون صحفيًا منذ الصغر لميولي الأدبية، لازال يستهويني ذلك العشق الممتع للهندسة، فلو لم أكن صحفيًا لتمنيت أن أكون مهندسًا، فالمهندسون هم من يبنون الدول ويقودون نهضتها ويشيدون قوتها العمرانية والصناعية والعسكرية.
وأرى أن ثورة 23 يوليو 1952 لا زالت تعطينا الدروس ونحن في عام 2025 لتنير لنا الطريق العلمية، وتؤكد أنه لا يوجد تقدم لأي دولة دون أن تمتلك زمام العلم الحقيقي والمتاح لجميع أبنائها بدون تمييز. لقد أخذت الثورة بالعلم كسبيل أساسي ومهم في نهضتها، وفي قلب هذا العلم برزت الكليات العلمية كالهندسة والطب. وقد تم تطوير معهد الهندسة بجامعة عين شمس إلى كلية هندسة في عام 1954، وتم إدخال كليات الهندسة والطب ضمن جامعة الأزهر عام 1961 لدمج العلوم الدينية والدنيوية. وبفضل مجانية التعليم، تم إنشاء عشر جامعات بدلًا من ثلاث جامعات قبل الثورة.
فثورة 23 يوليو، وتحديدًا خلال فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، حوّلت مجال الهندسة من خدمة النخبة إلى ركيزة لاستقلال مصر الوطني ونهضتها الشاملة. فصنعت مكانتها وجعلت مصر الثورة قدوة لمن حولها من البلدان العربية والأفريقية، لتؤكد للأعداء قبل الأصدقاء أن الثورة المصرية تبني دولة وتصنع نهضة.
لقد شهدت مصر بعد 23 يوليو 1952 طفرة حقيقية في المشاريع الهندسية الضخمة، بهدف بناء قاعدة صناعية وزراعية قوية لمصر بعد أن قامت الثورة بتحويل ملامح مصر الحديثة عبر استثمار الهندسة كأداة محورية للتنمية والاستقلال الوطني. وبفضل قرار مجانية التعليم، التحق أبناء الفلاحين البسطاء بكليات الهندسة، لتنطلق مصر خلال عشر سنوات من قيام الثورة، وتدشن مشروعاتها الهندسية الضخمة في كل المجالات على أكتاف أبنائها من المهندسين المصريين الشبان، وهو ما تجلى في مشاريعها الضخمة .
وكانت البداية من السد العالي (1960-1971): أعظم مشروع هندسي في القرن العشرين، والذي حمى مصر من الفيضانات، وزادت الرقعة الزراعية بفضل بناءه لأكثر من 1.3 مليون فدان، ووفر كهرباء لنحو 50% من القرى المصرية، باستخدام 43 مليون متر مكعب من الخرسانة.
وبعدها واستمراراً للثورة الهندسية أنشأت الثورة مصانع عملاقة مثل الحديد والصلب في حلوان ومصنع ألومنيوم نجع حمادي الذي يعد الأكبر في أفريقيا حتى الآن، ومن بعده مصانع شركة النصر للسيارات التي لا نزال نفتخر بها ونسعد بمحاولات وزارة قطاع الأعمال العام إحيائها، ومصانع سكر الحوامدية الذي تم إنشاء مصنع مهم أيضا تابع لها لتصنيع المعدات الميكانيكية لخدمة المصنع والتصنيع للغير، وبعد ذلك تم إنشاء عدد من مصانع السكر من المنيا حتى أسوان، و مصانع الكيماويات والأسمدة والمصانع الحربية في حلوان والتي كان من المستحيل إقامتها بدون وجود مهندسين مصريين.
لم تكن الهندسة مجرد أداة تنموية للثورة، بل جزءًا من مشروع التحرر الوطني المصري في وجه الاحتلال، فتأميم قناة السويس (1956) كان قرارًا هندسيًا-اقتصاديًا أعاد السيطرة على البنية التحتية الحيوية والسيطرة على شريان اقتصادي وتجاري مهم، ولم يكن ليتم لولا أن مصر كان لديها مهندسون شبان تحملوا إدارة مرفق مهم كقناة السويس.
المشروعات الزراعية الكبرى التي تم إطلاقها بعد الثورة، وخاصة مشروع مديرية التحرير والوادي الجديد ووادي النطرون، لم تكن لتتم لولا أن مصر امتلكت مهندسين زراعيين ومهندسين ري قادرين على القيام بأعباء هذه المشروعات الضخمة. هذه المشاريع وغيرها شكلت ركيزة أساسية للدولة المصرية الحديثة، وتركت إرثًا هندسيًا واقتصاديًا كبيرًا. فما أشبه اليوم بالبارحة، فكما اعتمدت ثورة 23 يوليو في عهد الرئيس جمال عبد الناصر على الهندسة المصرية في بناء نهضتها وترسيخ دعائم قوتها وإبراز عمقها الحضاري وتاريخها، فمصر ثورة 30 يونيو في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي تسير بقوة على نفس النهج الملهم، معتمدة على قوة أبنائها المهندسين بثورة في كافة المجالات العمرانية ببناء مدن جديدة وصلت لأكثر من 14 مدينة جديدة بداية من العاصمة الإدارية الجديدة ومرورًا بالمنصورة الجديدة وغيرها وحتى العلمين الجديدة.
ثورة هندسية مكنتنا من شق قناة السويس الجديدة في 2015، ثم حفر أنفاق أسفل القناة لتسهيل العبور والتنمية في سيناء، وتنفيذ القطار الكهربائي الخفيف بين العاصمة والعاشر من رمضان والقاهرة، ثم البدء في إنشاء القطار الكهربائي السريع من العين السخنة حتى مطروح ومن الإسكندرية حتى أسوان، وخطوط المترو الجديدة، والعديد من المطارات الجديدة والقواعد العسكرية، والآلاف من الطرق السريعة المتطورة ومئات الكباري، وتدشين مشروعات الري العملاقة بداية من تبطين الترع ومرورًا باستكمال قناة توشكى وما أقيم عليها من مشروعات ميكانيكية للري ووصولًا للدلتا الجديدة وترعة المحمودية والشيخ زايد والحمام التي تنقل المياه لقلب الصحراء لتخلق حياة جديدة ومجتمعات زراعية كان حلم وجودها في قلب الصحراء مستحيلًا، تحقق الآن بأيدي المهندسين والعمال المصريين.
ختامًا، يجب التأكيد على أننا يجب أن نسخر كافة الإمكانيات في مصر لكي نصنع أجيالًا من المهندسين الشباب يواصلون وضع مصر على طريق الدول العظمى في كافة المجالات. ويجب توفير كافة الإمكانيات العلمية والتكنولوجية بتأهيل طلابنا منذ الصغر وإعدادهم ليقتحموا المجالات العلمية، وتوفير كليات هندسية وجامعات هندسية متخصصة، والتوسع في التدريب على استخدام الهندسة العكسية والذكاء الاصطناعي لتوفير وتصنيع كل ما نحتاجه وفي بناء كل ما نريد وقهر المستحيل، لتكون مصر التي نحلم بها دولة علمية متقدمة بشعب كريم وجيش قوي.



















