مع تأملي لحالة الزحام والحشد الكبير في ختام المهرجان القومي للمسرح بدار الأوبرا المصرية، وهو حضور في معظمه لشباب المسرحيين المشاركين بأعمالهم في المهرجان، ومع تأملي أيضًا للآمال الكبيرة التي تملك عليهم قلوبهم وعقولهم.
أعيد طرح سؤال قديم طالما طرحته على نفسي: ماذا عن مستقبل هؤلاء المهني؟
يحتشد مسرحنا المصري بطاقات كبيرة، وتتعدد وتتوالى مهرجاناته وتسابق الفنانون داخلها، ويبقى السؤال الحقيقي: هل من الممكن أن يكون المسرح الآن مساراً احترافياً يمنح له الفنان عمره المهني؟ وأقول لنفسي مجدداً، وذلك بينما أنظر للماضي بحزن كبير، الماضي القريب جداً لمسرحنا المصري، كان المخرج المسرحي في مصر صاحب رأي وصاحب موقف.
وكان المخرجون الأشهر في ستينيات القاهرة يستطيعون فرض تصورهم على جهات الإنتاج. بعضهم سافر للخارج بعد تحولات السبعينيات المصرية احتجاجاً معلناً على موقف من الفنون وعلى موقف في السياسة العامة.
كان كرم مطاوع وسعد أردش على سبيل المثال طلباتهما مجابة لدى الدولة ومؤسساتها الرسمية رغم الحس النقدي الواضح في اختياراتهما الجمالية والإبداعية، بعضهم الآن وهم يدورون من مهرجان إلى مهرجان قد نسوا فكرة الموسم المسرحي.
أصبحت عادة في مسرح الدولة طول مدة التدريبات المجانية. بعض العروض ظلت تدريباتها عامين مثل عرض الملك وأنا على مسرح البالون.
هل حقاً ومع كل تلك الورش التدريبية للفنانين الهواة، ومع كل صناعة الأحلام يمكن استيعاب كل تلك الأعداد من المواهب والأحلام في إطار مهني منتظم؟
مع غياب الاحتراف في مهنة المخرج المسرحي في مصر، وتقلص الفرص واختفاء فرق القطاع الخاص وغياب المواسم المسرحية، وتراجع مفهوم الفريق المسرحي المنتظم ودخول مقترحات الاستثمار وإعلان المؤسسة الرسمية نفسها كراع وليس كمنتج مسؤول، وتعاظم حضور الهواة، ولهاث التسابق المحموم، وغياب الانتظام الاحترافي المهني، هل لهؤلاء حقاً فيما هو قادم مستقبل مهني حقيقي؟
أذكر عندما حصلت على عضوية شعبة الإخراج المسرحي في نقابة المهن التمثيلية أن المخرج الكبير عبد الغفار عودة قد كتب لي تقريراً بأنني قادر على الإدارة وعلى وضع رؤية إخراجية وتنفيذها، كان المخرج يقدم ثلاث تجارب احترافية تحت إشراف مخرجين كبار، ولا يصبح مخرجاً حاملاً للقلب إلا بعد انتهاء ذلك التدريب المهني الحقيقي.
وكان الحصول على عضوية هذه الشعبة بالتحديد، وهي شعبة الإخراج المسرحي اعترافًا كبيراً ودخولاً لنادي المبدعين.
كنا نتقاضى أجوراً عادية لكنها بمعيار تلك الأيام كانت مناسبة، وهي حقاً لا تزال تقريباً كما هي منذ عشرين سنة في اللوائح الرسمية.
العقود المهنية التي هي عقود إذعان يحق للطرف الأول فسخها دون إبداء لأسباب في المكان والزمان الذي يراه هي عقود لا تتناسب مع الإبداع في القرن الحادي والعشرين.
بالتأكيد كان هذا الشرط لا يمكن إشهاره في وجه كرم مطاوع مثلاً، كانت مصر كلها والوطن العربي ستدافع عن المفكر المسرحي المبدع.
قاعات التدريبات غير المهيأة في البيوت الفنية، حالة اللا اهتمام بالاستفادة من الخبرات الإبداعية التاريخية التي لا تزال قادرة على العمل، غياب النجوم لضعف الأجور وغياب الدعاية وأشياء أخرى.
لا يمكن للمسرح المصري أن يعيش على حماسة نجم كبير لنص لوليم شكسبير، ولا يمكن حقاً استمرار احتكار الهواة المشهد الرئيس في المسرح المصري، واستمرارهم في تمثيل دور المحترفين.
لا أحد يسأل عن مستقبل مهني حقيقي لهؤلاء الذين يشغلون الفراغ المسرحي العام في المهرجانات المتصلة.
في مصر الكبيرة وتعداد سكانها الثري الكبير فرص حقيقية لجمهور كبير، يحتاج لكل هؤلاء المبدعين.
أما كيف نفعلها؟ أما كيف يمكن تمهيد الطريق المهني لهؤلاء، لا تركهم يركضون وراء سراب في صحراء المهرجانات المتصلة فهذا هو السؤال.
ولعل حقاً عودة الهيبة والاحترام والمهنية للمخرج المسرحي المحترف تكون هي البداية الحقيقية لعودة الاحتراف المسرحي والمواسم المسرحية، والعروض الكبرى التي كانت تضيء ليالي القاهرة والإسكندرية والتي نتمنى عودتها في كل عواصم مصر الكبيرة ولجمهورها الكبير الذي ينتظر فناً جميلاً يذهب ليدفع تذكرة مناسبة كما كان يفعل على الدوام.
مسرحيون لا يطلعون خارج الوطن على الدوام، ولا ينتظرون فرصاً في أنواع إبداعية أخرى كي يمكن لهم العمل في المسرح بشكل منتظم.
يحتاج الأمر حقاً لإرادة وخطة تتجاوز بها الحركة المسرحية المصرية ما وصلت إليه من حالة الجمع بين الهواية والمهرجان لصالح الضوضاء المسرحية وخصماً من رصيد كبير للمسرح المصري المحترف بمعناه الجمالي والمعرفي.



