
المصريون يحتفلون به تقديرا لعطاء النهر الخالد ودوره في بناء الحضارة المصرية
"عيد وفاء النيل".. وحقيقة إلقاء عروس في مياهه

شيماء حلمى
يحتفل المصريون بعيد وفاء النيل يوم 15 أغسطس من كل عام.. فقد آمن المصريون القدماء منذ استقرارهم على ضفاف النيل بأن نهر النيل هو مصدر الحياة وتجسيدًا للنظام الكوني الذي يحيون فيه وأن منابعه هى حدود الكون المعروف في عالم الأحياء وفي العالم الآخر أيضًا وكانوا يعتقدون أن حابي إله النيل.
لماذا تحتفل مصر بالنيل؟
فى مصر القديمه قدس النيل باعتباره مصدر الحياة والخير فى مصر، يرمز المصريون القدماء للنيل بإله سموه الإله حابى تخيلوه على هيئة رجل جسمه قوى و له صدر بارز وبطن ضخمة كرمز لإخصابه، وأحيانا شبهوه بالإله أوزوريس وكانوا يعتقدون أن فيضان النيل على أرض مصر كل سنة ينبت الزرع الأخضر كمان جواز الإله أوزوريس من إيزيس أثمر عن حورس.
وبهذه المناسبة .. صرّح أ.د. هاني سويلم وزير الموارد المائية والري، بأن يوم وفاء النيل ليس مجرد احتفال سنوي، بل هو رسالة تؤكد ارتباط المصريين بنهرهم العظيم عبر العصور، وامتداد لتقاليد أجدادنا الذين أبدعوا في إدارة مياه النيل وترويض فيضانه منذ فجر التاريخ.
وأضاف سويلم أن هذه الذكرى تجسد رؤية الدولة المصرية نحو غدٍ أكثر إشراقًا، يقوم على التنمية الشاملة والمستدامة، ويقوده جيل من الكوادر المؤهلة بوزارة الموارد المائية والري، القادرة على مواجهة التحديات وتحقيق طموحات الشعب المصري.
وفي ذات السياق، نستعرض حقيقة إلقاء فتاة جميلة في نهر النيل تحت مسمى "عروس النيل" كان المؤرخ العربي ابن عبد الحكم قد ذكر في كتابه "فتوح مصر والمغرب" في القرن التاسع الميلادي، في معرض حديثه عن "النيل"، أن لدى المصريين عادة إلقاء فتاة جميلة في مياهه لاسترضاء النهر كي يفيض ويعم عليهم بالخير في شتى مناحي الحياة اليومية، لم يتصور أنه بعد نحو ما يزيد على ألف عام من تاريخ كتابته لهذه القصة أنها ستكون مصدر إلهام لإنتاج فيلم سينمائي يحمل نفس الاسم "عروس النيل"، وأنها ستُطبع في أذهان كثيرين دون بحث أو تدقيق.
تدور أحداث الفيلم، الذي أنتج في عام 1963 وأخرجه فطين عبد الوهاب، في قالب رومانسي كوميدي، إذ يذهب مهندس جيولوجي إلى مدينة الأقصر للتنقيب عن البترول، وتواجهه صعوبات نظرا لأن المنطقة كان المصريون القدماء يستخدمونها مقبرة لـ "عرائس النيل"، ويرى المهندس فتاة جميلة في زي عروس النيل تدعى "هاميس" تطلب منه وقف عمليات التنقيب، وتخبره بأنها ابنة الإله آتون، وأنها آخر "عروس للنيل"، وقد أرسلها والدها إله الشمس إلى الأرض مرة أخرى لتمنع انتهاك حرمات مقابر عرائس النيل.
أصبحت تلك الأسطورة، لاسيما بعد تقديمها على شاشة السينما، من أبرز الأساطير التي رُوّجت عن علاقة المصريين القدماء بنهر النيل، والتي تقول إنهم كانوا يلقون بعروس جميلة عذراء، ترتدي أفخر الثياب والحلي، ويزفونها إلى نهر النيل، بعد أن يُلقوها حية لتبتلعها المياه، وأن هذا التقليد أصبح متواترًا للوفاء بفضل النيل على أرض مصر.
فما هي قصة الأسطورة والرد عليها من وجهة نظر علماء دراسات تاريخ مصر القديم.
ذكر هذه الأسطورة المؤرخ العربي أبو القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الحكم المتوفى في عام 871 ميلاديا، أي بعد دخول العرب مصر بنحو 200 عام، وذكرها في كتابه الشهير "فتوح مصر والمغرب" وخلاصة ما يقوله ابن عبد الحكم إن "عمرو بن العاص لما فتح مصر، أتى أهلها إلى عمرو حين دخل شهر بؤونة "القبطي" فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا سُنّة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ ... قالوا: أنه كلما جاءت الليلة الثانية عشرة من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بِكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل".
ويتابع ابن عبد الحكم :"فلما قدم الكتاب إلى عمرو فتح الورقة فإذا بها: من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر.
أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.
فألقى عمرو الورقة في النيل، وكان أهل مصر قد تهيأوا للجلاء والخروج منها، لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل.. وأصبحوا وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة".
لم يذكر هذه القصة بعض المؤرخين والرحّالة والجغرافيين العرب الذين زاروا مصر، من أمثال المسعودي في مروج الذهب ومعادن الجوهر "956 ميلاديا" والكندي في فضائل مصر "961" وناصر خسرو في سفرنامه "1061" وابن جبير في تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار "1183 ميلاديا" وعبد اللطيف البغدادي في الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر "1194 ميلاديا"، وجميعهم تناولوا وصف مدن مصر وأحوالها بعد ابن عبد الحكم، ولم يذكروا هذه الأسطورة عند حديثهم عن النيل، على الرغم من إقامتهم في مصر وسط أهلها.
ويقول فريق من المؤرخين إن فكرة "عروس النيل" ربما تعود إلى تقديس المصريين للنيل وتشييد التماثيل المختلفة له، فضلًا عن عادة إلقاء الحلي والقطع الذهبية تكريما لهذا النهر، بينما يقول آخرون إن المصريين كانوا يلقون دمية مصنوعة من الذهب أو البرونز أو الفخار كل عام في وقت الفيضان كهدية للنيل حتى تكثر خيراته، ومن هنا حدث الخلط.
والواقع أن القصة لا أساس لها من الصحة بالنظر إلى ما خلفه المصريون القدماء من آثار، لا سيما "مقاييس النيل"، في عدة مواقع كانوا يسجلون بها درجات ارتفاع منسوبه أو تراجعه، ولا تزال بعض هذه الدرجات مسجلة على أعمدة معابد مثل الكرنك وإدفو وصخور أسوان، فلو أنهم كانوا يلقون عروسا في النيل ليفيض لأشاروا إلي ذلك ضمن ما نقشوا على آثارهم من أحداث السنين والمجاعات التي أصابتهم بسبب تراجع منسوب النهر.
كما لم يتحدث شعراء وكتاب مصر القديمة إطلاقًا في قصائدهم وكتاباتهم الأدبية عن "عروس النيل"، كما أن أخبار الفيضان ووصف الاحتفال به تخلو تماما من أي إشارة إلى هذا القربان البشري.