عاجل
الخميس 11 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
مؤثرو زمان.. والمتأثرون "3"

المؤثرون.. إمحوتب.. وكوخ

مؤثرو زمان.. والمتأثرون "3"

في رحلة الحياة لا يوجد إنسان يعيش بمعزل عن الآخرين، فكل شخص يتأثر ويتأثر به الآخرون سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، في أفكاره وسلوكياته وقيمه، حتى العظماء كان لهم أشخاص أثروا فيهم، فالتأثير المتبادل هو جزء طبيعي من الحياة والتطور البشري. ولكل واحد من هؤلاء العظماء قصص عن المؤثرين، ودورهم في حياتهم، ومساعدتهم من أجل العلم والتعلم والتفوق والعدالة والإنسانية، والارتقاء بأرواحهم للسمو والعطاء والمشاركة من أجل مجتمع، وعالم أفضل.. قصص بدأنها بكاتبنا الكبير نجيب محفوظ ونكملها مع ملك القلوب البروفيسور مجدي يعقوب كما سمّته صديقته الأميرة ديانا ورفيقته في أعمال الخير والتبرعات.



 

تأثر مجدي يعقوب في بداية حياته بعدة شخصيات مؤثرة.. من بينهم والده، وهو جراح، له تأثير كبير عليه، بالإضافة إلى عمه الذي كان أيضًا طبيبًا. كما تأثر بوفاة عمته بسبب مرض القلب الروماتيزمي في سن مبكرة، مما دفعه لدراسة جراحة القلب، وتأثر جدًّا بوفاة والده بعد صراع مع السكتات القلبية، بالإضافة إلى تأثره الكبير ببعض الشخصيات البارزة في مجالات مختلفة.. منهم إمحوتب من أوائل الأطباء في التاريخ، وكرمز للعلم والطب في مصر القديمة، والعالم الألماني روبرت كوخ، والفيلسوف النمساوي كارل بوبر، والسير بيتر المدور، وهو عالم أحياء بريطاني، وتأثر به يعقوب كنموذج للبحث العلمي والابتكار.

 

أولهما صانع العجائب إمحوتب، الطبيب الأول في عهد الملك زوسر وإله الطب عند المصريين القدماء، وقد حصل على الكثير من الألقاب من ضمنها رئيس المهندسين وسيد النحاتين ورئيس الوزراء. ولُقِّب باسم ابن بتاح، وقد نال شهرة عظيمة وواسعة عند الإغريق أيضًا، الذين سموه "أسكلبيوس" وعبدوه كإله في طيبة.

 

ظهر إمحوتب سنة 2800 قبل الميلاد في التاريخ الفرعوني القديم على أنه الرجل النابغة ضمن عائلة لم يعرف عنها الكثير من التفاصيل، سوى أنه من أسرة ميسورة الحال ومُحبة للعلم والتعليم؛ مما جعل إمحوتب أول مهندس معماري وأول طبيب معروف الاسم في التاريخ المدوّن إضافةً للعديد من المجالات. حتى إن البعض اعتبره صانع الأعاجيب.

 

تمتّع إمحوتب بالقدرة على الكتابة باللغة الهيروغليفية التي اقتصرت على 1% من عموم الشعب في تلك الفترة، كما عمل في القصر الملكي كمهندس للملك "زوسر"، فصمّم هرم زوسر المدرّج في سقّارة، حصل إمحوتب، إضافةً لكونه مهندسًا معماريًا، على العديد من الوظائف والامتيازات التي يحلم بها الكثيرون، والتي تقتصر على الأسرة الحاكمة فقط. فقد كان مسؤولًا عن الأمور الدينية والعلاجية والعدالة (كما نظام المحاكم) وخزينة المملكة والحروب والزراعة والمشرف العام على أمور المملكة.

 

كان لظهور إمحوتب أثرٌ كبيرٌ في تطور العمارة الفرعونية، فظهر الهرم المدرّج بسبب براعته لفن العمارة في هضبة سقّارة، بدلاً من مباني العصور القديمة المكونة من الحجر والخشب.. لم يكن إمحوتب بانيًا للأهرامات والمعابد فحسب، وهذا ما أدركه الكهنة الذين أذهلتهم عبقرية إمحوتب في العديد من المجالات، فكان يمتلك الكثير من المعرفة في الطب؛ حيث كان على علم في فن التحنيط وعلم التشريح إضافة لمعرفته الكبيرة في علم النجوم.

قام إمحوتب باختراع الكثير من العقاقير الطبية، كما أسّس مدرسة لتعليم الطب في مدينة ممفيس المصرية التي أصبحت بعد موته مقرّاً لعبادته. كذلك قام بتوحيد الآلهة المصرية بإله واحد هو عبادة روح الشمس. كان أيضاً شاعراً وفيلسوفاً، احتوت مقولاته وأمثاله فلسفة للحياة، وإحدى هذه الاقتباسات التي عثر عليها الباحثون تقول: "تناول الطعام والشراب وافرح، فغداً سوف نموت".

 

يقول السير ويليام أوسلر الطبيب الكندي مكتشف الصفائح الدموية، إن إمحوتب هو من كان أبا الطب بلا منازع، وأنه الشخصيةُ الأولى الطبيةُ في العصور القديمة، وإنجازاته تشهد له. فقد شخّص إمحوتب وعالج أكثر من 200 مرض؛ 15 مرضاً من أمراض البطن، و11 من أمراض المثانة، و10 من المستقيم، 29 من العيون، و18 من الجلد والشعر والأظافر واللسان.

عالج إمحوتب السل وحصى المرارة والتهاب الزائدة الدودية والنقرُس والتهاب المفاصل، كما أجرى العديد من الجراحات ومارس طب الأسنان بشكل مبسّط. كذلك استخرج الأدوية من النباتات، وعرّف وظائف أعضاء الجسم وأجهزته، وكانت لديه معرفة بالدورة الدموية.

 

أصبح إمحوتب فيما بعد إلهاً للشفاء أو إلهاً للطب تقريباً في عهد الفتح الفارسي لمصر عام 525 ق.م، ليحلّ محلّ "نفرتم" في ثالوث ممفيس العظيم، وتشارَك في عائلته الأسطورية مع "بتاح" خالق الكون و"سخمت" إلهة الحرب والأوبئة، وله معبدٌ في سقارة باسم معبد إمحوتب. وصار هذا المعبد كالمستشفى يزوره المرضى من جميع أنحاء المنطقة، حيث انتشرت عنه أخبار كثيرة تعلن نجاحه في شفاء الكثير من الأمراض، هذا إلى جانب العقاقير الناجحة التي اخترعها. وقد ظلّت شهرته منتشرة، حيث كُرِّست له عدة أبنية في كثير من المعابد بمنطقة طيبة في معابد الكرنك والدير البحري ودير المدينة وجزيرة فيلة، كما بنى له بطليموس الخامس معبداً.

 

أخذ اليونانيون هذا الطب المصري برمته بعد أن قاموا بتصفيته من كل مظاهر السحر والطقوس، وبعد ذلك انتشر من قبل الهيلينية إلى كل أرجاء المنطقة. ورث علماء العرب هذا الطب وطوّروه وأثْرَوه بعلومهم وانتقل بعدها إلى أوروبا من خلال الأندلس. أخذ الأوروبيون هذا الكنز الطبي وحوّلوه إلى ما نسميه اليوم بالطب الحديث بعد جهود مئات من العلماء والباحثين الأوروبيين.. آلاف الأعوام كانت رحلة ما أنتجه إمحوتب في الطب حتى وصل إلى ما نراه اليوم.

 

 

المؤثر الثاني في حياة البروفيسور مجدي يعقوب، واحد من ثلاثة عشر طفلاً أنجبهم مهندس التعدين الألماني هيرمان روبرت كوخ، وكان الابن هاينريش ثالثهم، ووفقًا لسيرته الذاتية الحائزة على جائزة نوبل، أذهل الصبي والديه بتعليمه القراءة بنفسه في سن الخامسة باستخدام الصحف فقط. التحق بالمدرسة الثانوية المحلية في كلاوستال ودرس علم الأحياء هناك حتى تخرجه عام 1862.

بعدها ولمدة أربع سنوات درس كوخ الابن، الطب وأجرى أبحاثًا في مجال الأمراض المعدية في جامعة غوتنغن بألمانيا، تحت إشراف فريدريش غوستاف جاكوب هنلي الحائز على جائزة نوبل، وأستاذ التشريح في الجامعة.

كان هنلي طبيبًا أجرى أبحاثًا في علم التشريح والأمراض المعدية في ألمانيا. أثناء عمل كوخ في مختبر هنلي، درس الاثنان العلاقة بين البكتيريا والمرض. بعد تخرجه بشهادة طبية عام ١٨٦٦، سافر كوخ إلى ألمانيا، لدراسة الكيمياء.

 

أمضى كوخ أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن التاسع عشر في مواصلة دراسته للطب، وتكوين أسرة، واكتساب الخبرة كطبيب في مدن ألمانية مختلفة. بعد فترة ستة أشهر من الدراسة والبحث في برلين، بدأ كوخ مسيرته الطبية عام ١٨٦٧ في هامبورغ، ألمانيا، حيث عمل مساعدًا في المستشفى العام للمدينة.

في وقت لاحق من ذلك العام، انتقل إلى لانغنهاغن، ألمانيا، حيث بدأ العمل في الطب العام. في عام ١٨٦٧ أيضًا، تزوج كوخ من صديقة طفولته، إيمي أدولفين جوزفين فراتز، بعدها بعامين انتقل كوخ وعائلته إلى راكويتز، ألمانيا، حيث اجتاز امتحان ضابط الطب الشرعي المحلي. بعد انتقاله إلى راكويتز، اندلعت الحرب الفرنسية البروسية، وتطوّع في الحرب كطبيب مستشفى ميداني من عام ١٨٧٠ إلى عام ١٨٧١.

 

في أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر، أجرى كوخ تجارب على مرض السل، وحدد العامل الممرض المسبب له، والمسمى عصية السل أو المتفطرة السلية. حدد كوخ البكتيريا التي اشتبه في أنها تسبب السل، وخلص إلى أن السل ينتشر عبر سوائل الجسم. ووفقًا لستيف بليفينز، الأستاذ في مركز علوم الصحة بجامعة أوكلاهوما في مدينة أوكلاهوما، فإن نتائج كوخ حول انتقال السل دفعت المهنيين الطبيين إلى اعتبار المرض مشكلة صحية عامة، وتطبيق تقنيات تعقيم الملابس والفراش في المستشفيات ومرافق الرعاية الطبية الأخرى. في عام ١٨٨٣، أرسلت الحكومة الألمانية كوخ إلى مصر لدراسة تفشي مرض الكوليرا، وعيّنته رئيسًا للجنة الألمانية المعنية بالكوليرا.

الكوليرا عدوى بكتيرية حادة تُسببها تناول طعام أو ماء ملوث ببكتيريا ضمة الكوليرا، وتُسبب أعراضًا كالإسهال والجفاف. بحلول عام ١٨٩٦، أودت الكوليرا بحياة أكثر من ٥٨ ألف شخص في مصر. ووفقًا لبليفينز، كانت الحكومة الألمانية قلقة بشأن احتمال انتشار الكوليرا إلى أوروبا، فأرسلت مجموعة من الباحثين، من بينهم كوخ، إلى مصر لدراسة المرض.

من خلال عملهم في مصر، اكتشف كوخ وزملاؤه أن الكوليرا تنتشر عبر المياه الملوثة، وكانوا من أوائل الباحثين الذين وصفوا المرض. بناءً على نتائجهم، اقترح كوخ أن تُكثّف الحكومات عمليات تنقية المياه على مستوى البلاد لمنع انتشاره.

 

فرضيات كوخ.. من خلال تجاربه على الجمرة الخبيثة والسل والكوليرا في منتصف وأواخر القرن التاسع عشر، وضع كوخ معايير تُعرف باسم فرضيات كوخ لتحديد ما إذا كانت بكتيريا معينة تُسبب مرضًا.

 

فى الخمس سنوات التالية، منح قادة برلين كوخ العديد من فرص العمل والتقدير. من أستاذ للصحة ومدير لمعهد الصحة في جامعة برلين. ثم في عام ١٨٩٠، إلى جراح عام، وهي رتبة رفيعة في الخدمة العسكرية الطبية. وفي العام نفسه، منحته مدينة برلين لقب "حر المدينة"، وهو تكريم خاص تمنحه المدينة لتكريم أفرادها.

 

ثم بدأ التدريس كأستاذ فخري في كلية الطب في برلين، وعمل مديرًا لمعهد الأمراض المعدية، حيث واصل أبحاثه حول مرض السل.. سافر كوخ إلى جنوب أفريقيا لإجراء أبحاث حول طاعون الأبقار، وهو مرض شديد العدوى وقاتل يصيب الأبقار والجاموس وغيرها من الحيوانات، وبعد إجراء أبحاثه في جنوب أفريقيا، سافر إلى العديد من البلدان الأخرى حول العالم لدراسة الأمراض المعدية، ذهب إلى الهند وأجزاء من أفريقيا لدراسة أمراض مثل الملاريا، وهو مرض طفيلي ينقله البعوض ويسبب أعراضًا تشبه أعراض الإنفلونزا، وحمى المياه السوداء، وهي أحد مضاعفات الملاريا.

 

أنتقد كوخ عمل لويس باستور، الباحث الفرنسي الذي كان مسؤولًا عن ابتكار العديد من اللقاحات، بما في ذلك لقاحات الجمرة الخبيثة وداء الكلب، وهو مرض ينتقل غالبًا عن طريق لدغات الحيوانات ويمكن أن يسبب أعراضًا تشبه أعراض الإنفلونزا مثل الحمى أو الضعف.

 

حاول كوخ وباستور التقليل من إنجازات بعضهما البعض، لكن تنافسهما أدى إلى إنجازات غيّرت النظرة العلمية للأمراض. أسهم كلا العالمين في نظرية الجراثيم للأمراض، وهي فكرة أن الكائنات الدقيقة المعروفة باسم مسببات الأمراض، أو الجراثيم، تسبب المرض.

 

ونتابع الحكي عن مؤثري زمان.. ومنهم أشهر فلاسفة العلم على الإطلاق كارل بوبر، والعالم اللبناني الأصل بيتر مدوّر.. سنتابع الحكي..

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز