الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

بعد افتتاحه.. قصر ثقافة الغردقة صرح يعود للحياة بعد ربع قرن من الإغلاق

وزير الثقافة مع وزير
وزير الثقافة مع وزير العمل ومحافظ البحر الأحمر في افتتاح الق

قبل أشهر، أثارت وزارة الثقافة جدلا واسعا بعد قرارها بإغلاق عدد من بيوت الثقافة والمكتبات المستأجرة، بسبب عدم فاعلية هذه المواقع، وعدم جاهزيتها لتقديم خدمة ثقافية حقيقية تواكب تحولات العصر، وهو القرار الذي قابله بعض المثقفين بالرفض، معتبرين أن الإغلاق يقلص المساحات الثقافية المتاحة في المحافظات، في المقابل، كان وزير الثقافة الدكتور "أحمد فؤاد هنو" مصرا على أن تلك الأماكن لا تصلح لممارسة أي نشاط ثقافي، وأن المكان المناسب لا بد أن يتيح تجربة متكاملة للمبدعين والجمهور على حد سواء، وأن أي تطوير حقيقي يجب أن يرتكز على مبانٍ مؤهلة لهذا الغرض، ورغم إنهاء الجدل حينها بتأكيد الوزير بأنه لن يتم غلق أي مكان ثقافي له تأثير مجتمعي حقيقي على الأرض، وأن النية الحقيقية تكمن في رفع كفاءة وتطوير المنشآت والبنى التحتية والكفاءة البشرية، إلا أن الرد العملي على صحة هذه الرؤية جاء من خلال خطة الوزارة لتطوير مواقع الهيئة العامة لقصور الثقافة والتي شاهدناها على مدار عام متمثلة في افتتاحات متتالية لقصور أعيد ترميمها على أحدث طراز، تعكس تحولا حقيقيا في طريقة التعامل مع ملف قصور الثقافة، وتثبت أن المسألة لم تكن مجرد تبرير، بل رؤية تسعى لاستعادة الدور الحقيقي لهذه المراكز الثقافية المهمة.

وقد أتيح لي هذا الأسبوع حضور حفل افتتاح قصر ثقافة الغردقة والذي شهد حضورا مبهرا لفرق فنية من مختلف محافظات مصر، حيث تنوعت الفقرات بين عروض موسيقية وفلكلورية تعكس ثراء المشهد الثقافي في كل ربوع الوطن.

والحقيقة أن الإبهار كان هو العنوان العريض لتلك الليلة، حيث يعكس القصر الذي يمتد على مساحة 9000 متر مربع، بتكلفة وصلت إلى 150 مليون جنيه مدى أهمية الاستثمار في البنية التحتية الثقافية بما يتجاوز التجديد العمراني، حيث يضم مسرحا مجهزا على أعلى مستوى يضم نحو 850 مقعدا والذي وصف بأنه واحدا من أكبر المسارح الثقافية في محافظات الصعيد وساحل البحر الأحمر، كما صممت قاعاته لتستوعب العديد من الأنشطة والورش التعليمية مثل القاعة التي تحمل اسم  “CULTURE STORE” التي يعرض بها منتجات الحرف التراثية والتقليدية من أعمال الهيئة العامة لقصور الثقافة وصندوق التنمية الثقافية من منتجات الخزف والحُلي والسجاد والديكوباج والأركيت والكليم والخيامية وغيرها. 

كما يضم القصر قاعة نادي العلوم التي تحتضن أصحاب المواهب العلمية من أبناء المحافظة، بالإضافة إلى مكتبة عامة، وقاعات للفنون التشكيلية والموسيقى، وقاعة اجتماعات حديثة، وقاعات إدارية، ونادي تكنولوجيا المعلومات، بالإضافة إلى فندق ملحق بقصر الثقافة يضم 42 غرفة، والذي يمكن اعتباره نُزل ثقافي يتيح تجربة إقامة مختلفة تعكس هوية المكان، على أن يستغل هذا الفندق لاستضافة الفرق الفنية المشاركة في العروض القادمة.  وقد تم تطويره وإطلاق علامة تجارية خاصة به تحمل اسماً مستمداً من اللغة المصرية القديمة، وهو  Kemet Lodge

ولعل الميزة الحقيقة من وجود هذا الصرح الثقافي المتكامل بعد أن ظل مغلقا أمام سكان المدينة وقاطنيها لمدة ربع قرن من الزمان تكمن في قدرته على إعادة صياغة العلاقة بين المدينة وثقافتها، وفي الرسالة الحضارية التي يقدمها للعالم، والتي مفادها أن مصر -وتحديدا في المناطق الساحلية والسياحية- لا تمتلك فقط الشواطئ والجو المعتدل الذي يجذب السائحين، بل تمتلك أيضا تاريخا وثقافة وفنونا أصيلة يمكن أن تكون عنصر جذب للسائح الباحث عن تجربة ثقافية مختلفة، وترجمة لذلك، تم توقيع بروتوكول تعاون مع محافظة البحر الأحمر، برعاية اللواء "عمرو حنفي" لتقديم عروض فنية يومية لمدة ساعتين، خمسة أيام أسبوعياً، للسائحين الأجانب، بما يسهم في تنشيط السياحة وتحقيق موارد إضافية.

وفي رأيي أن وجود بروتوكول موجه للأجانب داخل القصر يعد خطوة بالغة الأهمية، بشرط أن يتحول الأمر إلى جسر للتبادل الثقافي، فالغردقة مدينة يعيش فيها آلاف الأجانب بصورة دائمة، وآلاف آخرون يزورونها بشكل موسمي، ما يجعل دمجهم في الأنشطة الثقافية عنصرا داعما لقيمة المدينة ومكانتها على خريطة السياحة العالمية من خلال عروض فنية بلغات متعددة، وورش مشتركة يحدث من خلالها تبادل معرفي حقيقي، أو أمسيات تعريفية بالثقافة المصرية، وكلها أدوات قادرة على تحويل هذا البروتوكول إلى قيمة حقيقية.

لكن رغم أهمية الانفتاح على الأجانب، يظل التحدي الأكبر هو جذب أبناء الغردقة أنفسهم. فمن المفترض أن يكون القصر بيتا لهم، ومساحة يجدون فيها ما يناسب اهتماماتهم، سواء كانوا شبابا يبحثون عن ورش وتدريبات، أو عائلات ترغب في حضور عروض فنية، أو أطفال يحتاجون إلى أنشطة دورية، وحتى تنجح هذه الرؤية، لا يكفي تجهيز المبنى فقط، بل لا بد من خطة تسويق حقيقية للأنشطة، ووصول القصر إلى جمهوره بطرق متعددة، عبر المدارس، والجامعات، ومواقع التواصل الاجتماعي، والتعاون مع المجتمع المدني، وحتى من خلال مبادرات تشرك الأهالي في تصميم الأنشطة نفسها، بالإضافة إلى ضرورة الإعلان عن برنامج شهري جاذب، وأجندة ثقافية واضحة، وطرح اشتراكات للشباب بأسعار مناسبة تساهم في تشجيعهم على الحضور الثابت، بالإضافة إلى استحداث أفكار تضمن خلق علاقة مستمرة مع الجمهور، مثل فكرة (أصدقاء القصر) والتي تمنح امتيازات معينة للمداومين على الحضور والاشتراك في الأنشطة، ومن هنا يتحول القصر إلى جزء من الحياة اليومية لسكان المدينة، ويصبح مساحة يشعر الجميع أنها تخصهم، وبالتالي يصبح الحفاظ عليه رغبة  نابعة منهم وليس امتثالا للتعليمات.

ويبقى العنصر البشري حجر الزاوية في نجاح مشروع تطوير مواقع الهيئة العامة لقصور الثقافة، فالموظفون والمشرفون على البرامج والورش هم من يضمنون استمرار جودة الخدمات وحماية التجهيزات من التلف، ويشكلون الواجهة الحقيقية للمكان أمام الجمهور، وهو الهم الذي يؤرق المسؤولين في الوزارة، فليس جميع الموظفين المتواجدين حاليا في المواقع المختلفة مؤهلين للقيام بهذا الدور، وهو ما ذكره الوزير صراحة في لقاء عقد مع الصحفيين عقب الافتتاح، لكن الأمر الإيجابي في هذا الصدد هو ما تفعله الوزارة الآن من تدريب للكوادر البشرية لتصبح قادرة على الإدارة والتنظيم والتطوير المستمر، وبذلك يصبح الاستثمار في العاملين جزءا لا يتجزأ من نجاح المكان، فضلا عن أن الرقابة والمتابعة المباشرة هي الضامن الوحيد على الحفاظ على هذا المنجز الثقافي وعدم تكرار الأخطاء التي أدت سابقا إلى تراجع قصور الثقافة عن القيام بدورها.

تم نسخ الرابط