الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

من الفتوى إلى هندسة الوعي.. الجلسة العلمية الثالثة للندوة الدولية للإفتاء تناقش الأمن الحضاري للوعي

فعاليات الندوة الدولية
فعاليات الندوة الدولية الثانية التي تنظمها دار الإفتاء المصر

واصلت الجلسة العلمية الثالثة، المنعقدة ضمن فعاليات الندوة الدولية الثانية التي تنظمها دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، مناقشاتها الموسَّعة حول دور الفتوى في تحصين الهوية، وترسيخ القيم، وحماية الوعي الحضاري في ظل التحولات الرقمية والعولمة الفكرية المتسارعة.

 

وقدَّمت الدكتورة آمال عثمان محمد الجمل، مدرس العقيدة والفلسفة المساعد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر بكفر الشيخ، بحثًا علميًّا بعنوان: «تحديات الهوية الإسلامية في البيئة الرقمية: دراسة كلامية فلسفية في دور الخطاب الإفتائي المعاصر»، تناولت خلاله الكيفية التي تشكَّلت بها الهوية الإسلامية عبر التاريخ من خلال تفاعل العلوم الإسلامية وتكاملها، ولا سيما الفقه وعلم الكلام والفلسفة، ودورها في بناء العقل الإسلامي وترسيخ ثوابته المعرفية.

 

وأوضحت أن النماذج التأسيسية الكبرى في التراث الإسلامي، مثل الإمامين أبي حنيفة والشافعي، قدَّمت أنموذجًا متكاملًا يجمع بين العمق الفقهي والوعي الكلامي والفلسفي، بما أسهم في صيانة الهوية وضبط مسار التدين. كما ناقشت التحديات النوعية التي فرضتها العولمة الرقمية، وتعدد مصادر الخطاب الديني، وتباين التأويلات، وما قد يترتب عليها من ممارسات دخيلة تُغيِّر ملامح الهوية الإسلامية.

 

وأكدت د. آمال أن العولمة الرقمية أسهمت في تفكُّك المعايير الضابطة للهوية الإسلامية؛ نتيجة تضارب الخطابات وغياب المرجعيات المنضبطة، مشددة على أن علم الكلام يُعد أداة مركزية في حماية الثوابت العقدية وضبط التأويل، فيما توفِّر الفلسفة أدوات عقلية لتنظيم التفكير الديني وفهم مقاصده، بما يدعم بناء خطاب إفتائي رقمي واعٍ يسهم في صيانة الهوية وتحقيق التوازن في توجيه العقل المسلم.

 

وتناول الدكتور أحمد البدوي سالم محمد سالم، أستاذ العقيدة والفلسفة المساعد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر بالقليوبية، في بحثه المعنون «الدراسات المستقبلية وأهميتها في تحقيق الاستدامة ومجابهة المتغيرات الجيو-فلسفية»، أهمية الدراسات المستقبلية بوصفها ركيزة أساسية لضمان انتقال المجتمعات نحو مسارات تنموية مستدامة.

 

وأكد أن مفهوم الاستدامة لم يعد قاصرًا على الأبعاد البيئية أو الاقتصادية، بل أصبح إطارًا معرفيًّا شاملًا يستند إلى استشراف المستقبل، والتعامل العلمي مع المتغيرات المتسارعة، وفي مقدمتها الحفاظ على الهوية الدينية باعتبارها أحد أهم مقومات تماسك المجتمعات، وأوضح أن التحولات الجيو-فلسفية المعاصرة، بما تحمله من تغيرات فكرية وقيمية وجيوسياسية، باتت تهدد الثوابت الدينية والأخلاقية، الأمر الذي يستدعي توظيف مناهج علمية قادرة على سد الفجوات المعرفية والتعامل مع عالم يتسم بالتعقيد وعدم اليقين.

 

وأشار إلى أن الفتوى ليست بمعزل عن هذه التحولات، بل يُفترض أن تتفاعل معها بصورة تكاملية، من خلال الانتقال من أنماط التخطيط التقليدي إلى رؤى استراتيجية تستوعب مفهوم الاستدامة، بما يحقق مقاصد الشريعة ويحفظ حقوق الأجيال القادمة، ولا سيما في ما يتصل بصون الثروة البشرية والهوية الحضارية.

 

وفي إطار مقاربة فلسفية معمَّقة، قدَّم الدكتور عمرو الورداني، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية وعضو اللجنة الاستشارية العليا للمفتي، بحثًا بعنوان: «هندسة الأمن الحضاري للوعي: الإفتاء كآلية لترسيخ المعنى وحفظ الذاكرة الجمعية في زمن التحولات الرقمية»، تناول فيه العلاقة المركبة بين الوعي الحضاري والمرجعية الإفتائية في ظل التحولات الرقمية المتسارعة.

 

وأوضح أن التحولات الرقمية لم تعد مجرد أدوات تقنية، بل تحولت إلى قوة فاعلة تعيد تشكيل المجال الإدراكي للمجتمع، بما قد يؤدي إلى اختزال الوعي وتفكك الذاكرة الجمعية، وفتح المجال أمام أنماط معرفية عابرة للسياق الحضاري. وأكد أن للفتوى دورًا محوريًّا في صون الذاكرة الجمعية وبناء الهوية، عبر إعادة تموضع الإفتاء من مجرد نقل للأحكام إلى أداء وظيفة حضارية تُعنى بترسيخ المعنى وحماية الوعي.

 

وقدَّم د. الورداني نموذجًا تحليليًّا لدراسة الوعي يقوم على ستة مستويات رئيسية، تشمل: الذات، والسياق، والقدرات، والتهديدات، والآفاق، والأثر، بوصفها إطارًا لفهم التحديات الإدراكية التي تواجه المجتمعات في عصر السيولة الرقمية، مع التأكيد على ضرورة تطوير أدوات الإفتاء للتفاعل الواعي والمسؤول مع الفضاء الرقمي العالمي.

 

وأشاد الأستاذ الدكتور يوسف عامر، عضو مجلس الشيوخ، بالأوراق البحثية المقدمة، واصفًا إياها بالمتميزة والمتفردة، مؤكدًا أن جوهر النقاشات انصبَّ على قضية «صناعة المفتي»، ومَن يملك حق التصدي للإفتاء، مشددًا على أن صناعة المفتي عملية علمية ومنهجية عميقة لا تتحقق عبر دورات سريعة، بل تتطلب تكوينًا راسخًا في علوم الوحي، وإدراكًا دقيقًا للواقع.

 

ودعا إلى تطوير المناهج الدراسية بالكليات الشرعية بما يسهم في إعداد مفتين قادرين على حماية الهوية، وضبط الخطاب الديني، ومواجهة فتاوى التكفير وخطابات التطرف التي أسهمت في تشويه صورة الإسلام وظهور ظواهر كالإسلاموفوبيا، مؤكدًا أن تعزيز المرجعية الرقمية المنضبطة في الفتوى بات ضرورة ملحّة في ظل التحولات الراهنة.

تم نسخ الرابط