الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

عن دار الأدهم للكاتب أحمد عنانى..

«في دبي.. كانت لنا أيام».. فى كتاب حين تتحول التجربة إلى سرد للهوية والذاكرة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ليس من السهل أن يكتب المرء عن مكانٍ عاش فيه أكثر من أحد عشر عامًا، ثم ينجح في تحويل هذه المعايشة الطويلة إلى كتاب لا يقع في فخ النوستالجيا وحدها، ولا يكتفي بسرد الذكريات، بل يتجاوزها إلى قراءة ثقافية وإنسانية للمكان والناس والزمن. 

 

هذا ما يحققه الكاتب أحمد عناني في كتابه الصادر حديثًا عن دار الأدهم للنشر والتوزيع بعنوان «في دبي.. كانت لنا أيام»، وهو كتاب يمكن تصنيفه بوصفه أدب تجربة، أو سيرة مكان، أو شهادة صحفية إنسانية عن دولة الإمارات العربية المتحدة، وبخاصة دبي، في علاقتها بالإنسان والهوية والتراث والتحول الحضاري.

 

الكتاب، في جوهره، ليس مجرد يوميات كاتب عمل مديرًا لجمعية الصحفيين الإماراتية بين عامي 2009 و2022، بل هو محاولة واعية لتوثيق مرحلة تاريخية شديدة الثراء، شهدت تحولات كبرى على المستويات العمرانية والثقافية والإعلامية والاجتماعية، رآها الكاتب من الداخل، لا بصفته سائحًا عابرًا، وإنما شاهدًا ومشاركًا في تفاصيل المشهد.


ـ السفر كفعل معرفة


يضع أحمد عناني قارئه منذ السطور الأولى أمام فلسفة واضحة للكتاب، حين يستدعي المثل الشائع عن فوائد السفر السبع، لكنه لا يتعامل معه بوصفه حكمة مكرورة، بل كمدخل لفهم التجربة الإنسانية العميقة التي عاشها. فالسفر، هنا، ليس انتقالًا من مكان إلى آخر، بل هو إعادة تشكيل للوعي، وامتحان للذات في مواجهة الآخر، واكتشاف لمعنى الانتماء حين يتسع ليشمل أكثر من وطن.

 

يكتب "عناني" بروح من يعرف أن الزمن ليس عدد الأيام 4195 يومًا كما يحصيها بدقة، بل ما تتركه هذه الأيام من أثر في الوجدان.

 

 ومن هنا، تبدو الإمارات في الكتاب وطنًا ثانيًا، لا استعارة عاطفية، بل حقيقة تشكلت عبر العمل، والعلاقات الإنسانية، والتفاعل اليومي مع مجتمع متنوع الجنسيات، شديد التنظيم، وعميق الاحترام للإنسان.


ـ فسيفساء المكان والإنسان


يتوزع الكتاب على ستة عشر بابًا، تبدو للوهلة الأولى متفرقة، لكنها في العمق تشكل لوحة فسيفسائية متكاملة لدولة الإمارات. فمن الحديث عن دبي وجمالها، إلى رحلة الوصول، وكرم الضيافة، ورمضان، واليوم الوطني، وصولًا إلى التكنولوجيا والإعلام الرقمي، وشهادات من أرض الإمارات، يتنقل الكاتب بسلاسة بين الخاص والعام، بين الذاتي والموضوعي، بين الذاكرة الفردية والسرد الجمعي.

 

ويحسب للكتاب أنه لا يكتفي بدبي بوصفها أيقونة الحداثة، بل يمد الجغرافيا إلى أبوظبي والشارقة وعجمان وأم القيوين والفجيرة ورأس الخيمة، في رؤية تؤكد أن التجربة الإماراتية لا تختزل في مدينة واحدة، بل هي مشروع دولة متكامل، يحترم خصوصية كل إمارة، ويصهرها في هوية وطنية جامعة.


ـ التراث في مواجهة الحداثة:
يخصص "عناني" مساحة مهمة للحديث عن التراث الإماراتي، لا بوصفه ماضيًا متحفيًا جامدًا، بل كعنصر حي في تشكيل الحاضر.. فتناوله لمناطق مثل حي الفهيدي التاريخي، والسطوة، والشندغة، وديرة، وجميرا، يكشف عن وعي عميق بكيفية إدارة الإمارات لعلاقتها بتاريخها، حيث لا يتم هدم القديم لصالح الجديد، ولا تجميد التراث خوفًا عليه، بل إعادة توظيفه في سياق معاصر يحفظ الروح ويواكب الزمن.

 

ويبرز حي الشندغة، بما يحمله من رمزية تاريخية لأسرة آل مكتوم، كنقطة التقاء بين الذاكرة السياسية والاجتماعية لدبي، وبين مشروعها الحضاري الحديث، في صورة تعكس احترام القيادة للتاريخ، ووعيها بأن النهضة لا تقوم على القطيعة مع الجذور.


ـ الصحافة والإعلام


بحكم موقعه المهني، يولي الكاتب اهتمامًا خاصًا بتحولات الإعلام في الإمارات، وخاصة التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصالات، وانتقال الإعلام من المحلي إلى الرقمي العالمي.. ولا يكتب عن ذلك من منظور تنظيري، بل من تجربة عملية داخل واحدة من أهم المؤسسات المهنية للصحفيين، ما يمنح الكتاب قيمة توثيقية، خاصة للباحثين في تاريخ الإعلام الخليجي والعربي خلال العقدين الأخيرين.

 

كما يعكس الكتاب طبيعة المشهد الصحفي المتعدد الجنسيات في الإمارات، حيث يلتقي الصحفي المصري والعربي والأجنبي في مساحة عمل واحدة، تحكمها المهنية، ويجمعها احترام القانون والتنوع الثقافي.


ـ كورونا… اختبار الإنسان
لا يغفل الكاتب التوقف عند جائحة كورونا، بوصفها لحظة فارقة أعادت اختبار قوة الدولة وتماسك المجتمع. 

 

ويأتي هذا الجزء من الكتاب هادئًا، بعيدًا عن المبالغات، ليؤكد كيف تعاملت الإمارات مع الأزمة بوصفها تحديًا إنسانيًا شاملًا، لا مجرد أزمة صحية، وهو ما يعزز صورة الدولة القادرة على إدارة الأزمات دون التفريط في كرامة الإنسان.


ـ حين يتكلم الآخر عنك


يُعد باب «شهادات من أرض الإمارات» من أهم أجزاء الكتاب وأكثرها دلالة، إذ يختار الكاتب أن يفسح المجال لآخرين ليتحدثوا عنه وعن تجربته، في بادرة تعكس ثقة بالنفس، وإيمانًا بأن التجربة الإنسانية لا تكتمل إلا بتعدد زوايا النظر إليها.

وتتنوع هذه الشهادات بين دبلوماسيين وصحفيين ومثقفين، مصريين وإماراتيين، لتشكل معًا صورة صادقة عن عمق العلاقات المصرية الإماراتية، تلك العلاقات التي لم تُبنَ فقط على المصالح السياسية، بل على تاريخ طويل من الود والتفاهم الإنساني، أرسته قيادات تاريخية، ويواصل ترسيخه الحاضر.


ـ كتاب في المحبة والوفاء


في ختام «في دبي.. كانت لنا أيام»، لا يحاول أحمد عناني أن يغلق الدائرة، بل يتركها مفتوحة على الذاكرة والحنين والامتنان. فالكتاب، في النهاية، رسالة شكر طويلة، واعتراف جميل بوطن احتضن الكاتب، ومنحه فرصة أن يعيش ويعمل ويحلم، دون أن يطالبه بالتخلي عن جذوره الأولى.

 

«في دبي.. كانت لنا أيام».. إنه كتاب عن المكان حين يصبح إنسانًا، وعن الزمن حين يتحول إلى ذاكرة جمعية، وعن الهوية حين تتسع لتشمل الآخر دون أن تفقد ذاتها. وهو، بهذا المعنى، إضافة مهمة إلى مكتبة أدب الرحلة المعاصر، وإلى الكتابات التي تحاول فهم التجربة الإماراتية من الداخل، لا بوصفها نموذجًا استهلاكيًا للحداثة، بل مشروعًا حضاريًا يقوم على التوازن بين الأصالة والمعاصرة.. كتاب يستحق القراءة، لا لأنه يحكي عن دبي وحدها، بل لأنه يحكي عن الإنسان… أينما كان.

تم نسخ الرابط