مع بدء العد التنازلى لنهاية أيام سنة 2025 وبداية سنة جديدة، شهدنا سجالًا إعلاميًا.. يرتدى قناعًا دينيًا وهميًا ومزيفًا. هو ليس مجرد خطأ صحفى أو عنوان مبهم يثير الجدل، بل هو فصل من فصول هذا الاشتباك الضخم بين ما هو دينى وما هو سياسى، وبين الحقائق والشائعات، وبين المعنى والمزاعم الموجهة بمهارة لمغازلة الشارع. والأهم أن بعض هذا الخلط ليس جديدًا، بل هو جزء من تيار عالمى يستثمر الدين ويوظفه ويستغله كغطاء لمشروع نفوذ واسع لكون الدين أشد الأدوات تفجيرًا فى السياسة الدولية.
هناك مساحة مظلمة.. تنهش فى تماسك الدول واستقرارها. بين النص والسلطة، وبين اللاهوت والسياسة، وبين الإعلام والوعى، وبين المعلومة والوهم. وكل الخطر حين يوظف الدين كأداة لتبرير مشروع سياسى يتحدث باسم الإيمان، ولكنه فى الحقيقة يتاجر بقضايا أكبر تصطدم بالهوية والانتماء والصراع والولاء.
عقيدة أم أداة نفوذ سياسى..
المسيحية الصهيونية ليست امتدادًا عضويًا لتاريخ المسيحية، ولا هى نتيجة تطور لاهوتى طبيعى داخل الكنائس التاريخية على مستوى العالم. ولكنه نتاج فكر.. ترسخ خلال سياق سياسى غربى، يتعامل مع النصوص الدينية ليس باعتبارها رموزًا روحية، بل أوامر تنفيذية لسيناريو تاريخى محدد.
محتوى هذا الفكر يرتكز على فكرة أن العودة اليهودية إلى أرض فلسطين ليست حدثًا تاريخيًا فحسب، بل شرط مسبق لعودة السيد المسيح. وبالتالى، يكون دعم دولة إسرائيل ليس خيارًا سياسيًا، بل واجب دينى استراتيجى مقدس. هنا يكمن السر الحاسم.. حين يحول البعض الكتاب المقدس إلى خارطة طريق سياسية، تبرر القوة، ولا تطرح السؤال الأخلاقى حول: من ينهب؟ ومن يحتل؟ ومن يباد؟ ويحاول أن يربط كل ما سبق تحت مظلة «النبوءات الدينية». وهو فكر لا يتداول داخل الكنائس.. بقدر ما يتم ترويجه وتسويقه فى بعض العواصم كوسيلة دعم سياسات جيوسياسية. وهنا تأتى أهمية التمييز بين المسيحية الصهيونية وبين العقيدة المسيحية التقليدية التى تتعامل مع النص.. كمصدر أخلاقى وإنسانى، وليس أداة لتبرير الاحتلال والقوة والعنف والإبادة.
المسيحية الصهيونية..
المسيحية الصهيونية ليست مذهبًا مسيحيًا تقليديًا، ولا هى تيار فكرى لاهوتى له جذور راسخة فى تاريخ الكنائس الكبرى وعقيدتها. بل هى قراءة أصولية خرجت من رحم البروتستانتية فى القرن التاسع عشر، وتحديدًا عبر العالم اللاهوتى القس جون داربى (الايرلندى الجنسية). والمعروف عنه أنه صاحب «المدرسة التدبيرية»، والتى تعتمد على التفسير الحرفى لسفر «رؤيا يوحنا اللاهوتى» بالعهد الجديد لربطه ببعض نصوص العهد القديم.. رغم أن دارسى الكتاب المقدس وعلمائه يعلمون جيدًا أن هذا السفر هو من أكثر أسفار العهد الجديد رمزية.
ضمن أهم المقولات للقس جون داربى أن «معركة هرمجدون ليست مجازًا بل حرب حقيقية ستقع فى فلسطين، وعلى اليهود أن يعودوا إلى هناك حتى تقوم الساعة». هذه القراءة، التى رفضتها الكنائس الرسولية الكبرى على غرار الكنيسة الأرثوذكسية المصرية والكنيسة الكاثوليكية «الفاتيكان» باعتبار تلك الأفكار انحرافًا عن العقيدة. وقد وجدت تلك الأفكار.. أرضًا خصبة فى الولايات المتحدة بعد اكتشافها بعدة قرون لكونها بدأت كمجتمع زراعى، وأمى نسبيًا، ومهووس بالأساطير، ويبحث عن هوية كونية فى أرض جديدة.. وصفها البعض بأنها الجنة والأرض المختارة.
وحتى يكتمل مشهد تكوين المسيحية الصهيونية، نذكر دور سى. أى. سكوفيلد (تلميذ القس جون داربى) الذى نشر ما يعرف بـ «الكتاب المقدس المرجعى لسكوفيلد»، والذى تميز بوجود أفكار وهوامش تتطابق مع أفكار القس داربى. وهو ما رسخ تفسيرًا واحدًا منتشرًا عند غالبية الشعب الأمريكى عبر الأجيال المتعاقبة بأن دعم اليهود وعودتهم إلى فلسطين أمر إلهى، بل هو شرط لخلاصهم فى طريق السماء. ومن هنا بدأت الحكاية كما كتبتها قبل ذلك فى مقال تحت عنوان (مصر أولًا.. أفكار تشارلى كيرك وصفقات دونالد ترامب.. المسيحية الصهيونية.. اللاهوت يتحول إلى سلاح سياسى!) بمجلة روزاليوسف فى 20 سبتمبر 2025.
موقف وطنى لا ريب فيه..
ترتب على ما سبق، أن ما بدأ فى البداية كوعظ دينى.. سرعان ما تحول سريعًا إلى عقيدة سياسية. ومع بدايات القرن العشرين، أدركت الحركة الصهيونية الناشئة أن هذه الأساطير ستكون كنزًا سياسيًا كبيرًا. والدعم لم يعد يقوم على حجج «التاريخ» أو «المظلومية اليهودية» فحسب، بل بات جزءًا من عقيدة دينية عند شريحة كبيرة جدًا من الشعب الأمريكى.
فى مضمون هذه الدراما الفكرية يقف المجتمع المصرى، بطوائفه ومكوناته، فى مواجهة مباشرة مع خطابات تحاول فرض نظرة أحادية.. تصادر العقل وتستبدل النقد بالاتهام. الكنائس المسيحية المصرية بتعدديتها التاريخية، تمثل جزءًا من النسيج الوطنى الذى يرى أن الدين لا يوظف سياسيًا ضد حقوق الشعوب وتقرير مصيرها أو لتبرير احتلال الأرض والإنسان. ولذا أرى، أن الموقف المسيحى المصرى من القضية الفلسطينية ليس مجرد ترديد شعارات، بل هو امتداد لرؤية تؤكد أن الدين يفهم فى سياقه الإنسانى والحقوقى، وأن دعم الحقوق والعدالة لا يصنعه خطاب التغييب أو تصنيف الناس وفق ولاءات تسلب المجتمع توازنه.
التعميم المضلل.. ليسوا كتلة واحدة
أحد أخطر الأخطاء فى الخطاب الإعلامى الموجه هو استخدام مصطلح «الإنجيليين»، وكأنه اسم شامل ودال على كتلة واحدة موحدة فى المعتقدات أو المواقف. والحقيقة أبعد ما تكون عن هذه البساطة. التيار الذى يعرف بـ «المسيحية الصهيونية» هو تيار فرعى داخل فضاء واسع، وهو يعود تاريخيًا إلى أصول مسيحية متفرعة ومتعددة، بعضها شديد الحرفية فى قراءة النص الدينى، وبعضها الآخر معتدل أو حتى ناقد لهذا التيار. حين يقال «الإنجيليين يدعمون إسرائيل»، يتحول المصطلح من توصيف فكرى إلى اتهام شامل للمسيحيين فى مجملهم بوجه عام. وهذا ليس فقط غير دقيق، بل مضر جدًا وطنيًا وإنسانيًا لأنه يمنح أعداء الفكر والتعددية والتنوع.. حجة للاشتباك الطائفى بدلًا من أن نشتبك مع الأفكار المتطرفة والمستغِلة للدين.
ليس تبشيرًا.. بل تعبئة سياسية
قراءة المشهد بوضوح، تشير إلى أن ما يجرى الحديث عنه ليس إرسال قساوسة لنشر الإيمان، ولا تدريب رجال دين على الوعظ، بل إعداد كوادر شعبية تؤدى وظيفة دبلوماسية غير رسمية. نحن أمام تأسيس تيار سياسى، وليس دينيًا.
الهدف واضح ومحدد، يتلخص فى تعويض تآكل صورة إسرائيل عالميًا، خاصة بين الشباب.. عبر خطاب دينى عاطفى لا يخضع للمنطق الحقوقى والسياسى. هنا لا تسأل عن الجرائم المركبة.. لأنها تعبر عن نبوءة محصنة بقداسة النص الدينى.
تدريب القساوسة..
يجب أن نكون دقيقين تمامًا.. لأن ما حدث هو خلط بين لقاءين. الأول الذى نظمه المبشر الإنجيلى الأمريكى د. مايك إيفانز بالشراكة مع وزارة الخارجية الإسرائيلية فى القدس بعنوان «قمة سفراء أصدقاء صهيون». ودعا فيه إلى تدريب 1000 قس أمريكى ليس على ممارسة الوعظ الدينى وحده، بل على برنامج عالمى ذى أبعاد سياسية واستراتيجية. وهو ما يعود إلى 6 سنوات مضت، وتحديدًا فى 3 ديسمبر سنة 2019.
والثانى، فى 7 ديسمبر 2025 حيث تم عقد قمة السفراء فى القدس بحضور 1000 قس إنجيلى أمريكى وقائد كنسى كجزء من برنامج تدريبى وإعلامى.. يعتمد عليهم بعد عودتهم ليعملوا كـ «سفراء دعم إسرائيل» فى مجتمعاتهم. وذكر فيه د. مايك إيفانز صراحة (أن الحضور.. يمثلون عشرات الملايين من الأمريكيين، ولهم تأثير فى الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى) وهم مكلفون بـ (تعزيز الدعم لإسرائيل ومواجهة الانتقادات الدولية، خاصة بين الشباب الأمريكى الغربى) ووصف هذه الحملة بأنها أكبر تحرك استراتيجى من نوعه لتأصيل الرواية الإسرائيلية داخل الكنائس الإنجيلية الأمريكية.
القضية ليست فى الرقم ذاته فقط، بل فى دلالته الخطيرة. هو ليس برنامجًا دينيًا أو تبشيريًا، بل حملة منظمة تستثمر الدين لغايات سياسية وإعلامية بعيدة المدى، وتحول رجال الدين إلى أدوات ضغط غير رسمية فى صراع عالمى على تلك الرواية المزعومة.
الدين كأداة نفوذ..
يكمن جوهر المشكلة فى أنه حين توظف المؤسسات الدينية كذراع سياسى، يصبح السؤال المنطقى: هل هو فعلًا دينى أم سياسى؟! والسؤال الأهم: إلى أى مدى يصبح الدين وسيلة ضمن مشروع نفوذ عالمى وتوجيه للرأى العام؟!
تحول المسيحية الصهيونية.. النص الدينى إلى توصيف لمفردات ومعانى جغرافية وسياسية، على غرار: أرض، وأرض الموعد، وعودة، ووعد، ونبوءة. بينما المسيحية بمعناها التاريخى ترى الإنسان قبل المكان، والعدالة قبل القوة، والمحبة هى القيمة العليا.
هنا، يكون الحديث ليس عن معركة عقائدية بحتة، بل عن خلاف فى فهم وظيفة الدين فى العالم حول إذا ما كان دعوة إنسانية أم أداة استراتيجية.
المهنية والمسئولية..
الإعلام ليس فراغًا محايدًا، ولن يكون.. ولكنه بكل تأكيد مسئولية. وحين يطرح موضوع حساس مثل هذا.. بلا تدقيق فى المصطلحات، ودون تحديد سياقه اللاهوتى والمعرفى والسياسى، يتحول إلى طريق للسجال ووقود للاشتباك الفكرى والدينى.
الخطأ ليس فى نقل المعلومة وحدها، بل فى سوء تصنيفها وتقديمها كأنها تخص المسيحيين ككل، وليس تيارًا فرعيًا ضمن مساحة عقائدية واسعة ومتنوعة جدًا. هذا الخلط الإعلامى يؤدى إلى المزيد من توتر العلاقات المجتمعية، ويتسبب فى انطباعات مغلوطة تجعل التيار المتطرف يظن أن التضليل الإعلامى يعمل لصالحه، بينما الواقع أن الضحايا هم الوعى المجتمعى والوطنى نفسه.
مسئولية مجتمعية..
المعركة الحقيقية ليست ضد مصطلحات تسوق فى وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى والتطبيقات، ولا ضد تيارات غربية يعاد إنتاجها وتوظيفها سياسيًا. المعركة الحقيقية هى أن يكون لدينا وعى معلوماتى دقيق للفصل بين الدين والأيديولوجيات السياسية، وبين العقيدة والتوظيف السياسى، وبين ما يبث ومضمونه.
الكنيسة المصرية والوعى المصرى العام.. لا يقاسا بتقارير صحفية مغلوطة هنا أو هناك، بل بقدرة المجتمع على التمييز بين النقد المشروع والعداء سابق التجهيز. التهديد الحقيقى ليس من فكرة تدعم دولة بعينها، بل من خطاب عام يعطى لهذه الفكرة صك تأويل يجعل المجتمع كله فى حالة دفاع نفسى بدلًا من مناقشة سياسية عقلانية.. بناء على معلومات حقيقية.
المذاهب والسياسة..
أحد المداخل لفهم ما يحدث على الأرض، هو تحديد خريطة دقيقة للتيارات المسيحية المهنية بالمسيحية الصهيونية، بعيدًا عن التعميم الإعلامى السطحى.
سمات المسيحية الصهيونية أن أتباعها يقرأون النصوص حرفيًا، ويرون أن عودة اليهود إلى فلسطين شرط لعودة السيد المسيح.
ويدعمون إسرائيل سياسيًا وعسكريًا بلا قيود، ويرون أن أى معارضة لها هو تعطيل لإرادة الله. ويروجون لخطابً إعلامي عالمي، ويعملون.. كأدوات ضغط خارج الولايات المتحدة. والتركيز هنا ليس روحيًا أو إنسانيًا، بل سياسى وعقائدى، وهو ما يميزهم عن باقى الإنجيليين.
ولذا يجب أهمية عدم الخلط بينهم وبين الكنيسة الإنجيلية فى مصر خاصة الكنيسة المشيخية التى تمثل الغالبية العددية للمواطنين المسيحيين الإنجيليين المصريين. وهم يتبعون مدرسة الإصلاح البروتستانتية التقليدية، وينظرون إلى وعود العهد القديم روحيًا داخل الكنيسة، وليس فى دولة إسرائيل. وغالبًا ما يكون موقفهم نقديًا للاحتلال، ويؤكد على حقوق الشعب الفلسطينى. ولديهم تنظيم كنسى واضح فى شكل مجامع وإجراءات، ولا يتورطون فى سياسات خارجية باسم العقيدة.
هناك بعض المذاهب على غرار البلاميث أو الأخوة البلاميث. ومع كل التأكيد أنه ليس كل البلاميث صهاينة، ولكن الإعلام يربطهم أحيانًا بالمسيحية الصهيونية جزافيًا. ومن المهم إدراك هذا الفرق، لأن هذا الخلط يمكن أن يحول تلك الطائفة أو ذلك المذهب المسالم إلى هدف تحريضى من بعض التيارات المتشددة والمتعصبة. وبعيدًا عن المذاهب الإنجيلية المتعددة، نجد «شهود يهوه» و«الأدفنتست» وهما من المؤمنين بأفكار المسيحية الصهيونية ومعتقداتها.
هنا تأتى، أهمية الفصل بين المذاهب والسياسة. وهو ليس خيارًا مطروحًا، بل ضرورة.. لأن الخلط بين هذه التيارات والمذاهب.. يجعل النقاش مزيجًا من معلومات دقيقة فى سياق خاطئ، ويعطى للصراعات السياسية غطاء عقائديًا. أن فهم هذه الخريطة هو فريضة وطنية ووعى سياسى، يحمى المجتمع من الانزلاق نحو خطاب طائفى مضلل لصالح أجندات خارجية.
ما يحكم الكنيسة الإنجيلية فى مصر بمذاهبها الـ 18 هو الالتزام الوطنى المصرى دون أى تبعية لكنيسة أو مذهب خارج حدود الدولة المصرية.
نقطة ومن أول السطر..
ليست القضية «إنجيليين» أو «مسيحيين» أو حتى أى مصطلح آخر. القضية هى: كيف نقرأ الواقع؟ وكيف نفكك المفاهيم والمصطلحات؟ وكيف نحصن خطابنا الوطنى أمام عبث التوظيف السياسى للدين وتجاهل الصورة المعاكسة لخطاب المسيحية الصهيونية فى كنائسنا المصرية؟!
المسئولية هنا ليست دينية فحسب، بل وطنية قبل كل شيء، والحفاظ على هذا الوعى هو من يقى المجتمع من الوقوع فى شرك ايحاءات الخطابات المضللة.. خاصة خطاب الكراهية، كما يضمن أن يبقى النقاش عقلانيًا وسياسيًا، وليس عاطفيًا أو طائفيًا أو مذهبيًا.. حتى لا نصل إلى ازدراء الأديان، واستهداف المواطنين المسيحيين المصريين، والتحريض ضد كنيستهم الوطنية، والتشكيك فى كتابهم المقدس وعقيدتهم الدينية.
الإطار الحاكم هو الفصل بين العقيدة الإنسانية التى تدعو للعدالة والمحبة، وبين الأيديولوجيا السياسية التى تفسر النصوص وتشرحها خارج سياقها. وبيان الفرق بين التعميم الإعلامى الذى يشيطن المكونات، وبين الموقف الوطنى الذى يتعامل مع المعلومات والحقائق وليس العناوين الموجهة والمضللة.
نقلًا عن مجلة روزاليوسف



