السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

جبل النرجس.. قراءة في مجموعة قصصية للكاتب سمير الفيل

جبل النرجس.. قراءة
جبل النرجس.. قراءة في مجموعة قصصية للكاتب سمير الفيل
كتبت - د. عزة بدر

"جبل النرجس" هي أحدث مجموعة قصصية تفوز بجائزة الدولة التشجيعية للآداب، وهي للكاتب والشاعر سمير الفيل، الذي أصدر من قبل العديد من المجموعات القصصية منها: "خوذة ونورس وحيد"، و"أرجوحة"، و"كيف يحارب الجندي بلا خوذة؟"، و"صندل أحمر"، و"هوا بحري" وغيرها.

وكاتبنا الذي أثرى عطاءه الشعري "بندهة من ريحة زمان"، و"ريحة الحنة"، و"نتهجى الوطن في النور"، و"سجادة الروح" كتب الرواية والدراسات الأدبية، كما أصدر أعمالًا مميزة في مجال أدب الأطفال.

 

رحلة عطاء

وتمتد رحلة عطاء سمير الفيل إلى سبعينيات القرن الماضي فهو من أبرز مبدعي مصر الذين أسهموا بشكل مؤثر في إثراء حركة الأدب في أقاليم مصر، خاصة في دمياط التي تمتعت بنشاط أدبي وثقافي وافر، ازدهر مع جماعة "رواد" التي اضطلعت بدور مهم في إصدار دوريات أدبية عبرت عن حركة الأدب، وعن كتابات إبداعية متألقة وبرزت فيها أعمال سمير الفيل شاعرًا وكاتبًا ومنها مجلة "رواد"، ومجلة "عروس الشمال". كما قدمت جماعة رواد للحياة الأدبية أسماء مهمة في مجال القصة والرواية مثل مصطفى الأسمر، وحسين البلتاجي، وأحمد زغلول الشيطي، وفكري داود، وحلمي ياسين، وقدمت في مجال الشعر: محمد الزكي، ومحمد العتر، ومحمد النبوي سلامة، ومحروس الصياد، والسيد الغواب، ومحمد علوش، وكاتبة هذه السطور.

كما قدمت أسماء مهمة في مجال المسرح مثل محمد أبو العلا السلاموني، ويسري الجندي، ومحمد الشربيني.

ومن النقاد: أحمد عبد الرازق أبو العلا، وكامل الدابي.

 

جبل النرجس

وتأتي مجموعة "جبل النرجس" لترسخ لفكرة مهمة وهي أن تنوع إبداع الكاتب بين شعر وسرد ونقد يثري كل نوع أدبي أسهم فيه، حيث يتبدى هذا المزيج في كتابات سمير الفيل، ويتجلى هذا التنوع والثراء في هذه المجموعة فتبدو بعضها مثل مشروعات روائية، ومنها قصة "جبل النرجس"، وقصة "معطف المطر" فالكاتب يتتبع أبطاله، يسرد الكثير عن عوالمهم الداخلية السرية، وصراعاتهم في الواقع بين ما يعتقدونه، وبين أزماتهم في تحقيق ما يريدون.

فأبطاله يعيشون حياتهم بالطول والعرض يعشقون، ويتزوجون، ويثرون ثم يعودون في لحظة ما بأيدٍ خالية الوفاض، فيحاولون اكتشاف سر الحياة، وحل هذه الصراعات التي تزجيها الأطماع البشرية، والغرائز الإنسانية التي لا ينجو منها أحد من الأحياء بل الأموات أيضا!

فأبطال "جبل النرجس" يعودون من حيواتهم الأخرى– من مماتهم– ليطالبوا بإرث أبنائهم، وإرثهم، ويصارعون الأحياء من إخوتهم وأخواتهم، كل منهم يرى أنه الأجدر والأحق بأموال أخيهم الذي أثمر كفاحه عن عدة عمارات، ومحل بصندرة، بينما لم يسفر كسلهم في حياتهم الدنيا إلا عن تلك الحاجة الُملحة في الحصول على ما في أيدي الآخرين! كما يرى الأخ الثري الذي يريد أن يستأثر بكل شيء!

يريد أن يورث أبناءه، وأن يقتسم أبناء أشقائه نصيب إخوته في البيت القديم فقط لكن الصراع يتأجج عندما يعود الموتى ويجتمعون على "جبل النرجس"، يتحاسبون، ويصطرعون، يدافعون عن لحظات النصر، ولحظات الهزيمة، يبررون، ويمررون حججهم للحصول على حقهم في الدنيا وكأنهم لم يأخذوا منه شيئًا.

تتبدى الأهواء والرغبات، وقسوة الاختلاف بين من يرى أن تستثمر الأموال لصالح الأحياء، ومناشطهم وحيواتهم، ومنهم من يرى أن يتم التبرع بالأموال لبناء مسجد يؤمه الناس، وتكشف رحلة السرد عن صراع الإخوة الذي لا ينتهي، وحتى أولئك الذين يساندون الأخ الثري فهم يتقاضون ثمنًا لذلك، ويتدفق السرد من خلال بطله في مشاهد موحية: "مرت سيارة دهست كلبا ضالا فهي ممر رملي قريب من جبل النرجس، أتاح لي الضوء أن أجدها تقترب مني، هند شقيقتي الوسطى، وموضع أسراري، وجدتها تربت على كتفي، وهي تهمس لي: لا تخش شيئًا، أنت أحق بالمحل وريع البيت، فأنت الوحيد الذي نمت ثروته وجميعهم أفلسوا بخيباتهم وسوء تصرفهم، هززت رأسي ممتنا، وكما تعودت معها مددت يدي بمائة جنيه، كنت أدخرها للمواقف الصعبة فهزت رأسها رافضة: لا أقل من ألفي جنيه أهي لعبة؟!

واستطردت: هل يصير الدم ماء؟!

إنها تعرف أنني ضعيف تجاهها لكن ليس لدرجة الابتزاز، اللعينة تقطع من لحمي بالشوكة والسكين!" ص70.

ويمضي السارد كاشفًا عن تفاصيل ودواخل شخصياته معبرًا عن عوالم إنسانية غامضة حافلة بالصراع: "لمحته يحتك بي، وهو يشير إلى خاتم بفص أحمر في بنصري: أتتذكر يوم زواجك؟ لم تكن تملك مليما وأهديتك إياه؟!

فيقول بطل القصة صارخا: "كنت أغنانا، كنت فتحت محلين لتجارة الفواكه لكنك توحشت وتزوجت زيجتين واشتريت حديقة مانجو ثم حاصرتك الضرائب ومصاريف الزيجتين الفاشلتين فعدت لأصلك "يا مولاي كما خلقتني".. وهكذا تظهر الشخصيات تباعا فيتراشقون بالاتهامات حتى ليصل الأمر لمحاسبات تاريخية عن حروب خاضوا غمارها، أو نكسات لم يكن لهم يد فيها، وتنتهي القصة بمأساة جديدة لبطلها الذي تحمس ودافع طوال الوقت عن فكرة توريث ابنه "بلال" كل أمواله ضد كل هؤلاء الإخوة وأبنائهم. فيكون مقتله على يد ابنه هذا الذي أراد الأب أن يورثه كل شيء، معاديًا في ذلك الأحياء والأموات! وكأن جبل النرجس الذي كان يفترض أن يكون حافلا بالأزهار، والرائحة العطرة العبقة لأبناء هذه العائلة التي ينتمي إليها البطل، يتحول إلى مكان للصراع على المال والثروة ينتهي بإراقة الدماء في مشهد قاسٍ "في تلك اللحظة بالذات، ودون مقدمات وجدت بلالًا ابني يقف وسطنا، شهقت فيه مستنجدا: أنقذني من أطماعهم.. أبعد الأشقياء عني.

قال لي بلهجة مطمئنة: سوف أخلصك منهم.. مال بعنقه نحو تلك السائرة في خفة صامتة بحزن جنائزي، في إشارة متفق عليها، ومض ضوء أغشى الأبصار لثوان قليلة ثم لوَّح بيده فجاءت نحوي، رأيتها تسير كالمنومة حاملة كفنا شاهق البياض، تقدمت نحوي ودموعها تنحدر فتتحول كل دمعة لزهرة نرجس تنبت فوق الرمال، تتفتح في ثوان ثم تذبل في لحظة، أخرج سكينته التي برقت في ضوء نجمة بعيدة كانت ترسل شعاعها الواهن، جز رأسي، ولم أشعر بعدها بشيء أبدًا" ص 74.

 

مأساة الإنسان

اهتمام الكاتب بإبراز الصراع الداخلي لأبطاله يأخذ في قصصه أشكالا متعددة لا ينجو منه ساكن بر ولا ساكن بحر! فحتى عروس البحر في قصته "حكايتي مع الجارية" لها أطماعها أيضا فتجبر الإنسي الذي تقابله على الشاطئ على تنفيذ إرادتها، وتشترط لإنقاذ حياته أن يتزوجها! فإذا لم يفعل تركته للغرق! وتقسم بعد جدال عنيف معه أنها لن تنقذ بعد ذلك مثقفا أو كاتب قصص!

ويبدو الحوار في هذه القصة طريفا فاعلا فكان أحد التقنيات الناجحة التي رفدت القصة بعناصر حيوية في طريقة السرد.

"أنشبت أظافرها في عنقي مع لطمة هائلة لموجة عملاقة، صرت أشرب ماء مالحا ملأ صدري: أنت كثير الكلام، آخر مرة أنقذ مثقفًا!" ثم يتحاوران حتى يصلا إلى نقطة فاصلة:

 

هل أنت مخطوبة؟

ضحكت ضحكة خلت أن البحر قد ارتج لها وبعد لحظة تفكير قالت "أنا أتزوج بمن أختار.. يقضي العريس معي يوما أو يومين أو ثلاثة..

ثم صرخت في فزع: تتخلصين منه، هذا ما أعرفه أنت إذن جارية!

المسميات غير مهمة لكنني لا أقتل أحدا، أنا آخذ ما أريد ثم أبتعد.

ربنا يطمئنك وناوية تعملي معي إيه؟

فتدعوه إلى العش السعيد– محارة غير بعيدة– شرطها الوحيد للزيجة هو القبول فيحدث نفسه بأنه يريد أن يرى بقيتها، صحيح أن شعرها ينسدل على كتفيها كشلال من نور مفضض، وكل شيء فيها ينطق بالروعة لكن لا مفر، لا بد أن يرى بقيتها وكأنه يمني نفسه ويحلم بالقدر الذي يستطيع أن يقول: "أكلت السمكة حتى ذيلها"!.

لكن المسألة لم تكن ذكورية كما هي على البر فمقاييس عروس البحر كانت مغايرة، كانت امرأة مختلفة، ويكشف الحوار بتقنيته الماهرة عن هذا الاختلاف، فيقول الكاتب على لسان عروس البحر: "سترى كل شيء عندما يجمعنا العش السعيد"!

هل يمكن الرفض؟

يمكنك الرفض وكل ما سأفعله أن أتركك لمصيرك.

يعني الزواج أو الموت.

اختر

فليكن الزواج..

لكن الزواج كان محددًا بزمن وفي ظروف الغرق هكذا قال المثقف لعروس البحر فغضبت وهددته: "لا تثر غضبى فقد استحملتك كثيرا، أغلب الشبان الذين يتصادف إنقاذهم لا ينبسون بكلمة بل تستولي عليهم النشوة".

يتراشقان بالغزل، ويمتد الحلم ليسبح في غلاله وردية بعيدة عن متاعب البر وحب البر، ويصبح حب البحر أحلى من الشهد، ليتحقق بطل القصة في علاقة حب مغايرة ومع امرأة مختلفة.

ويلعب الحوار دوره الساحر في إضفاء المتعة وروح الفكاهة على النص فيقول الكاتب على لسان بطل القصة:

"سألتني وهي تمسد شعري:

كم ليلة ترغب أن تقضيها معي؟

ضحكت وأنا أتذكر شارع 101 حيث ينبغي أن أكون، لو عدت فسيكون عليّ أن أحمل أنبوبة البوتاجاز لتغييرها، وسأقف نصف ساعة في طابور الخبز، ثم أتزاحم كي أحصل على الفول والطعمية قلتُ غير كاذب: إلى الأبد.

أسدلت الستائر وهي تضحك لكلامي المرسل على عواهنه: يوم أم يومان؟

أسبوع وليكن لنهاية 1/8

حدد بسرعة يومًا أم يومين؟

ثلاثة... ممكن؟

هذه من صفات البشر الطماعين ثم إنها مدت يدها وأسدلت الستائر فيما كان صوت هدير البحر يصلني متقطعا، ويُخدر جسدي".

 

رحلة البحث عن الألفة والإيناس

وتبحر قصص كاتبنا في دواخل نفوس أبطاله، وتكشف تفاصيل مواجدهم، ومغارس زهورهم، ومواطن حبهم وأحلامهم، وتصبح حكايا الطفولة رافدا مهما من روافد هذه القصص ومنها قصة: "أن تعذب الكلب" حيث يجد الفتى اليتيم تعاطفا من كلب الشارع لا يجده مع البشر! فيتعلق به ويصطحبه إلى البيت فتضربه أمه، وتتجنبه صديقاتها، وينذره ناظر المدرسة إن هو اصطحب الكلب معه فيصبح الصبي محتارا مرتبكا باكيا يبحث عن مأوى لهذا الكلب الذي أشعره بالتعاطف، لكنه رأى صاحبه ذليلا مهانا، يُضرب ويُقمع فانصرف عنه، ومع الوقت يكتشف الصبي مأساته فمشكلته ليست أن الكلب رفيقه المفضل قد هجره ومضى إلى حال سبيله بعدما رأى قلة حيلته وهوانه على من حوله، لكن مشكلته يُتمه وأن عالمه لا أحد! وعندما يرى يتم صديقه وزميله في الفصل بعينيه، ويدرك غياب أبيه المروع، أبوه الذي كان يبحث للصبي عن مأوى لكلبه عنده بعد أن طارده الجميع، وتكتمل فصول عذابات الصبي في المشهد الأخير، مشهد والد صديقه (غريب) الذي ذكره بيتمه هو الآخر:

لم يكن يوم جمعة، هل سافر غريب دون أن يخبرني؟ أسرعت بخطواتي والكلب يتبعني، بين فينة وأخرى يهز ذيله، اقتربت من البيت فوجدت مقاعد القطيفة الزرقاء، مصطفة صفين، فوقها يجلس الرجال بأعين دامعة، عكس المنظر حيرة ضغطت على صدري ناديت على صاحبي وقلبي ملتاع: نزل غريب من البيت وهو يبكي "أبي مات".

كان حزينا وحائرا ومرتبكا، بكيت بدوري وقلبي تأكله الحسرة، ما تزعلش يا غريب، أنا زيك من سنين بكرة تتعود".

تركنا الكلب ومضى يضرب في الحواري الضيقة حتى غاب عن نظري، ولم يكن بي رغبة لأن أتبعه".

وتكمن في هذه العبارة عذابات الرحلة.. رحلة الصبي للإيناس، والحصول على العطف ممن حوله، الأم تخبطه بيدها غاضبة من مصاحبته للكلاب "مصيبة تأخذك أنت والكلب".

وأخوه يعنفه ويقول لأمه: "ابنك يعشق الكلاب. خليه ينام معها تحت الكباري، وفوق الجسور وفي الطرقات".

 

خذ قطة!

وبين سطور القصة تبدو التفاصيل مهمة فهي تصف الصبي الذي يبحث بشغف عن كائن يشاركه يتمه، ووحدته.

فيحاول مصادقة كلب صديقه "حسين" وقد منحه له هدية لكن "بؤيا"– وهو اسم الكلب الجديد– مضى ليحقق حلمه بالحب فطارد أنثاه واختفى الاثنان، فخاف أن يعود لصاحبه ابن العمدة فيخبره باختفاء الكلب فيغضبه لكن ابن العمدة يضحك قائلا: "بؤيا رجع لنا ثانية، خذ قطة أفضل"! لكن الصبي في بحثه المتواصل عن حنان، وإيناس لا يأنس لكلاب الزينة فأحدها يهش لكل غريب، ولا يسر لمرآه، فاشتكاه لصاحبه غريب الذي أخبره بأن الكلب ثمنه خمسون جنيها فأجهش الصبي بالبكاء لأن هذا المبلغ لو أعطاه لأمه لاشترت به حصيرة من البردي ولسدت ثقوب السقف التي تنشع بالمطر، ولكسته هو وأخاه وأخته أيضا.

وعلى هذا النحو الإنساني الفريد يصِّور كاتبنا مأساة الإنسان ووحدته طفلا وصبيا وشيخًا، يصف عوالم من الإيناس والحب يبحث عنها الإنسان بشغف على البر، أو حتى في البحر، وفي أحوال النجاة، وفي ظروف الغرق... وهو ما يضفي على هذه المجموعة القصصية عمق التناول، ورحلة سرد أثراها كاتبنا بتقنيات ماهرة كالحوار، والمشهد، وتدفق الرؤى، والنهل من منابع المرء الأولى خاصة في مراحل الطفولة والصبا والشباب، وهو ما استطاع تصويره في قصص المجموعة ومنها "عين حلوان"، و"هندسة"، و"البلكونة"، وغيرها.

 

تم نسخ الرابط