أبوالغيط: جيل الألفية محظوظ ولكنه أيضا مأزوم
كتبت - شاهيناز عزام
أكد أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية أن الجيل العربي الذي تفتح وعيه حول السنوات الأولى من الألفية الجديدة، وجد نفسه أمام عالم جديد حقًا... إن حفيداتي لا يتخيلن عالمًا بدون التليفون النقال (الموبايل).. لا يتصورن كيف كان البشر يتواصلون قبل ظهور النقال.. يعتبرن أننا كنا نعيش ليس في "عصر ما قبل الموبايل"، ولكن في "عصر ما قبل التاريخ".
جاء ذلك اثناء القاء كلمته لتمكين الشباب خلال "المؤتمر العالمي لتمكين الشباب.. تحديات الازمات وفرص التنمية الشرق الاوسط".
وقال: لقد وجد جيل الألفية نفسه في وسط حالة غير مسبوقة من الانفجار في وسائل الاتصال.. ولم يعد باستطاعته أن يتخيل العالم بدون هذا التواصل اللحظي المستمر.. إن أبناء هذا الجيل صار بإمكانهم أن يتواجدوا في أكثر من مكان في نفس الوقت.. لم يعد مهمًا أين يعيشون، ولكن مع من يتواصلون.. صار في مقدورهم الحصول على المعرفة بكبسة زر، وأصبح باستطاعتهم أن يراكموا من التجارب والمعارف ما يفوق ما توفر لدى الأجيال السابقة بأضعاف مضاعفة.
واضاف ابو الغيط ان جيل الألفية هو جيل محظوظ بهذه الإمكانيات غير المسبوقة للتواصل مع الأفكار الجديدة، وملاحقة التطورات.. ولكنه أيضا جيل يتعرض لتحديات غير مسبوقة.. لقد وجد نفسه في خضم تيار هائل من المعلومات والأفكار.. ومطلوبٌ منه أن يلاحق هذه الموجات التي تتدفق بلا انقطاع، من دون أن يفقد ذاته وهويته الحضارية المميزة... مطلوبٌ منه أن يعيش في عوالم متفاوتة في سرعاتها، وأحيانًا متناقضة في اتجاهاتها.
هو جيلٌ محظوظ، ولكنه أيضا جيلٌ مأزوم.. هو لم يصنع أزمته، وإنما وجد نفسه في خضمها وصار عليه أن يتعامل معها، ويواجه تبعاتها.. والخطأ كل الخطأ أن نحمله وحده مسؤولية هذه الأزمة.. والخطأ كل الخطأ أن نظن أن مجتمعاتنا غير مسؤولة بدورها عن هذه الأزمة.. أو أنها غير مطالبة بالبحث عن الحلول.
قد يظن البعض أن الحل هو تشييد الجدران التي تحول بين شبابنا وبين ما يتعرضون له من مؤثرات بالغة القوة والعنفوان من الخارج.. إنه الحل السهل، وهو أيضا – في تقديري- الحل الخطأ.. لم يعد ممكنًا في هذا الزمان أن نحرم شبابنا من الاتصال بعصرهم.. بل ليس مطلوبًا أن نعزلهم عن هذا العصر.. ذلك أن السوق التي سوف يتنافسون للعمل بها هي سوقٌ عالمية بامتياز.. ومعايير المنافسة فيها معايير عالمية.. وامتلاك الشباب لمستقبلهم يستلزم بالضرورة اتصالًا مكثفًا بهذا العصر بأدواته ولغته وقواعده الجديدة.
وليس الحل كذلك أن نترك شبابنا نهبًا للذوبان في هذا الفضاء العولمي من دون ملاذ أمن أو قاعدة صلبة يقف عليها، وينطلق منها.. إن هذه القاعدة ليست سوى الإيمان بالهوية الوطنية والثقة في الذات، والامتلاء الكامل بالانتماء للأوطان والشعور بالمسؤولية عن النهوض بأوضاع هذه الأوطان، بل وبتحمل ما تقتضيه النهضة من تضحيات.
إن جيل الألفية الذي نتحدث عنه، والذي يوشك أن يستلم دفة القيادة في مناحي الحياة المختلفة في مجتمعاتنا العربية، يحتاج إلى تحقيق التوازن السليم بين الاندماج في العصر، بمعارفه وأفكاره وأدواته.. والانتماء للمجتمع المحلي بقيمه وثقافته وتطلعاته.. والحقيقة أن الانتماء هو شرط للاندماج.. فلكي يكون هذا الاندماج مع العصر صحيًا، ولكي يكون التواصل مع العالم متوازنًا، ينبغي أن ينطلق من أرضية الانتماء للأوطان والثقة في الذات.
إن الثقة في الذات، وفي القدرة على الاندماج في الحضارة العالمية من موقع التكافؤ.. هو في حقيقة الأمر سمة من سمات الحضارة العربية في عصورها الزاهرة.. لقد نجحت هذه الحضارة في استيعاب عصرها وثقافته.. ولم تخش الانفتاح على الآخر بل سعت إليه، ورحبت به، حتى صارت مركزًا للثقافة الإنسانية، وجسرًا عبرت عليه منجزات الحضارات القديمة إلى أوروبا البازغة... لقد استطاعت الحضارة العربية أن تحقق التوازن الصعب الذي أتحدث عنه بين الانفتاح والحفاظ على الذات.. نجحت في التفاعل مع الآخر من دون أن يؤدي ذلك إلى الاستلاب أو الذوبان.. ولا أظن أن الشباب العربي يحتاج في هذه المرحلة إلى ما هو أكثر من هذه المعادلة التي طبقها أسلافنا حتى أشع نور حضارتهم على الدنيا بأسرها.
وشدد على مؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية واجبًا ومسؤولية... عليها أن تعد شبابنا ليكون أهلًا للالتحاق بالثقافة الإنسانية المعاصرة.. وعليها أيضا أن تسلحه بالوعي والتكوين الذي يحفظ له ذاته ويربطه بأوطانه وثقافته المحلية وهويته العربية المميزة.. وأطرح هنا ثلاث أفكار أراها جوهرية في أي مشروع للنهوض بالتعليم والارتقاء بوعي الشباب في العالم العربي.. اتحدث عن ثقافة المبادرة، وثقافة العلم، وثقافة المواطنة.
أولًا: ثقافة المبادرة:
واكد انه يتابع بإعجاب مبادرات عدد من الشباب العربي النابه في مجالات ريادة الأعمال والتكنولوجيا الرقمية وغيرها.. إلا أن "ثقافة المبادرة" ما زالت غائبة للأسف عن معظم الشباب العربي، بكل ما تعنيه هذا الثقافة من ميل للتجريب، واستعداد للفشل ثم إعادة المحاولة من جديد، وقدرة على استيعاب التغييرات المستمرة والتكيف معها.. إن تطورات الاقتصاد العالمي تجعل من الوظائف الثابتة، في أي مجال، شيئًا أشبه بالاستثناء.. لقد صار صعود وانهيار الشركات يجري بوتيرة مذهلة.. ولم تعد الشركات الأكثر نجاحًا مثل فيسبوك وجوجل توظف الأعداد التي اعتادت الشركات العملاقة مثل AT&T وU.S Steel توظيفها في السابق... إن النجاح في الاقتصاد الجديد، ومحركاته التي ترتكز على "الثورة الصناعية الرابعة"، لا يحتاج فقط إلى مهارات جديدة، وإنما في المقام الأول إلى "ثقافة جديدة".. وجوهر هذه الثقافة هو القدرة على التكيف والتعلم المستمر واكتساب المهارات عبر رحلة العمر وليس فقط في سنوات الدراسة.. إننا ما زلنا نجهز أبناءنا ونعدهم لعصر الصناعة، بينما هم سيواجهون تحديات عصر ما بعد الصناعة.. ولكي نصمم نظمنا التعليمية ومنهاجنا الدراسية على أساس سليم، فإنه مطلوبٌ منا جميعًا التفكير في الأدوات الجديدة التي يحتاجها شبابنا، وهذه الأدوات لن تكون مجرد معارف أو مهارات، وإنما أساليب للتكيف والتعلم والتدريب.
ثانيًا: ثقافة العلم:
ان عصرنا الحالي هو عصر تغيرات تكنولوجية طاغية وكاسحة.. وبرغم ما توفره وسائل الاتصال من فرص لا متناهية للتحصيل والمعرفة، إلا أن ذلك لا ينعكس –كما أرى وألمس- في انتشار الثقافة العلمية التي أعتبرها ركنًا محوريًا في تكوين الشاب المعاصر، حتى ولو لم يكن متخصصًا في أي من مجالات العلوم.. نحتاج إلى برامج أكثر لمحو ما يُمكن تسميته بـ "الأمية العلمية" لدى الشباب.. قادة المستقبل –في كافة مناحي الحياة والنشاط الإنساني- سيتعاملون مع قضايا مثل التغير المناخي والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، وهي تفترض الحد الأدنى من المعرفة بأبجديات العلوم، وبالتطورات المتلاحقة في هذه الميادين.. لا أتحدث هنا عن التخصص، وإنما عن مستوى من الثقافة العلمية لا بديل عن توفره من أجل النجاح في عالم المستقبل.
ثالثًا وأخيرًا: "ثقافة المواطنة":
وقال ان المواطنة ينبغي أن تكون الخيط الناظم والنواة الصلبة في تكوين الشاب العربي.. لا تعني المواطنة انغلاقًا أو تطرفًا في الحماس الوطني.. وإنما تُشير إلى المسؤولية التي يتحملها المواطن إزاء بلده.. إلى العروة الوثقى التي تربط الإنسان بالمكان الذي نشأ فيه، والثقافة التي ينتمي إليها.. ولا أرمي هنا إلى اتهام جيل الشباب بنقص في الانتماء، فهم بالتأكيد لا يقلون في وطنيتهم عن الأجيال السابقة.. إنما أعني أن الانتماء ليس مجرد كلمات تُقال أو أناشيد تغنى... بل هو تربية مبكرة تهيئ الإنسان لتشرب ثقافته الوطنية تشربًا حقيقيًا، واستيعابها استيعابًا كاملًا... إن تربية الشعور المشترك بالوطن هو الحصن الحقيقي في مواجهة أي رياح خبيثة تستهدف اقتلاع ثوابت الوعي أو زعزعة ثقة الشباب بأوطانهم... مشيرا أن لهذه التربية الوطنية مقومات وأدوات، في مقدمتها اتقان اللغة العربية، التي تمثل الركن الرئيسي في هويتنا الجامعة.. والتسلح بالحد الأدنى من المعارف التاريخية عن الحضارة العربية، فضلًا عن حضارة كل بلد عربي على حدة.. والتمكن من الثقافة الدينية، بكافة أبعادها الروحية والحضارية..



