سيرة الرحمة المهداة.. في ذكرى مولده
كتب - محسن عبد الستار
في حي قريب من بيت الله الحرام يسمى، "شعب بني هاشم"، وفي بيت هاشمي عريق في الفضل والشرف والكرم، هو بيت عبد المطلب بن هاشم، كان مولد النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم – في عام الفيل.
عاش- عليه الصلاة والسلام- يتيمًا
توفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب، قبل أشهر قليلة من ميلاده، ففرح الجد عبد المطلب بحفيده الجديد، وحمله معه إلى جوف الكعبة تيمنًا، واسماه محمدًا، وأحبه حبًا شديدًا.. فكان في انتظار مجيئه إلى الدنيا بشغف.. وأرسله إلى البادية– كعادة وجهاء أهل مكة في ذلك الوقت– ليسترضع في بني سعد، ويحمل من نقاء الصحراء سلامة اللغة، وأصالة النشأة، وقوة البدن، وفصاحة اللسان، وبعد مرور ثلاث سنوات عاد إلى مكة وحضن أمه وحنانها مرة ثانية لتهنأ به وتسعد، فهي لم يكن لها في الدنيا سواه، ولحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى توفيت أمه، وهي قادمة من المدينة، وهو في السادسة من عمره فقد أراد الله لنبيه أن يعيش يتيمًا، كي يتعلم الرحمة ويتعود على شظف العيش وقسوة الحياة.
مكانة محمد العظيمة عند جده "عبد المطلب"
انتقلت رعايته، بعد ذلك، إلى جده العطوف، عبد المطلب، الذي كان يُجلسه دون أبنائه على بساطه في ساحة الحرم الشريف، فكان أبناء عبد المطلب كلهم يقفون عند الحرم في انتظار أبيهم ولا يجلسون معه، احترامًا وتبجيلًا له، والذي يُسمح له بالجلوس معه هو حفيده المحبوب "محمد"، فجلس يستمع لكبار القوم ويتعلم منهم، مما كان له الأثر العظيم في نشأة النبي الكريم، وفصاحته وحسن تصرفه وتعامله مع الآخرين، ولكن هذه الرعاية لم تدم سوى سنتين.
أبو طالب وكفالة النبي
توفي الجد عبد المطلب، وانتقلت رعايته وهو في الثامنة من عمره إلى عمه أبي طالب، وعاش مع أولاده الستة واحدًا منهم.. وكان عطوفًا على ابن أخيه وأحبه "محمد"، وكان شديد التعلق به.
لما بلغ الثانية عشرة من عمره، اصطحبه عمه أبو طالب في رحلته التجارية إلى الشام ولقيهم بحيرة الراهب، وعرف فيه علامات النبوة وأخبر عمه وحذره من خطر اليهود عليه.. فأعاده عمه إلى مكة ولم يُكمل رحلته إلى الشام خوفًا عليه، لينشأ مع فتيانها متميزًا عنهم، بخلقه الرفيع، وأمانته، وصدقه، ونفوره من عبادة الأصنام التي كان يكره ذكرها ولا يحلف بها، وما سجد لها في يوم من الأيام قط.
حرب الفجار
ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره، شارك أعمامه في حرب "الفجار"، فكان يعد لهم النبال، وشهد معهم حلف "الفضول"، الذي كان ينتصر لحقوق الضعفاء والمظلومين.
وحفظه الله من أن يقع فيما وقع فيه شباب الجاهلية من لهو وارتكاب الفواحش.. وظهرت استقامته وشاعت صفاته الكريمة بين قومه وتفوق بها عن أقرانه، حتى لقب بالصادق الأمين.
العمل بتجارة السيدة خديجة
وفي الخامسة والعشرين من عمره اختارته السيدة، خديجة بنت خويلد، ليذهب مع غلامها ميسرة بتجارتها إلى الشام، فقام بالمهمة على أكمل وجه وأفضل حال، وعاد ميسرة إلى خديجة وأخبرها بأمانته وخلقه الرفيع، فتوسمت خديجة فيه صفات الزوج الصالح الذي تتمنى أي امرأة الارتباط به والعيش في كنفه.. وشجعته عن طريق إحدى المقربات منها على أن يخطبها، فخطبها وتزوج منها، وكان نعم الزوج لها كما كانت له نعم الزوجة.
لقد نشأ سيد المرسلين على مبادئ الصدق والأمانة، وهذا ما كان يعرفه أقرانه من أبناء قبيلته حتى التصقت بشخصيته كل الفضائل، ولم يكن منهمكاً في العيش كبقيّة الشباب بل كان كثير التفكير، شارد الذهن لا يشارك أبناء جيله ملذاتهم ولهوهم وانصرف إلى الاعتكاف والخلوة والتفكير بهذا الكون، ومقارنة ما يعبده أبناء قبيلته بالقدرة على خلق هذا الكون وتسيير أموره وشؤونه.
التعبد في غار حراء.. ونزول الوحي
وحين بلغ الأربعين من عمره، وفي أثناء تعبده في غار حراء نزل عليه الوحي، جبريل عليه السلام، وضمه إليه ضمًا شديدًا، وقال له "اقرأ" فرد عليه السلام: ما أنا بقارئ، وكررها ثلاثًا، فقال له: "اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم".
بعد ذلك أخذته زوجه خديجة حتّى إذا وصلت به إلى ابن عمّها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصَّر في الجاهليّة قبل مجيء الإسلام، وكان حينها يكتب الكتاب العبرانيّ، فكتب شيئاً من الإِنجيل باللغة العربيّة، وكان كبيراً في السن وقد أصابه العمى لكبر سنّه، فقَالت له خديجة: (يَا ابْن عَمِّ، اسْمَعْ مِن ابْنِ أَخِيك)، فَقَال لَهُ وَرقةُ: (يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرى؟) فَأخْبَره النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- بمَا رَأى وما حصل له مع الوحي، فَقالَ لَهُ وَرقةُ: (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أنزَلَه اللهُ عَلَى مُوسى، يَا ليْتَنِي فِيها جَذَعاً، لَيتني أَكُون حيّاً إِذْ يُخْرِجُك قَومُك). فَقالَ له النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- حينها: (أَوَ مُخْرِجِيَّ هُم؟) قَالَ: (نعمْ؛ لَم يأتِ رَجلٌ قَطُّ بمثْلِ مَا جِئتَ بِه إلا عُودِي، وَإن يُدرِكْنِي يَومُك أَنصُرْك نَصراً مؤزَّراً).
هجرة النبي الكريم إلى المدينة
بعد أن اشتدّ أذى قريش لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه، حينها شكا أصحابه من ذلك، وطلبوا منه أن يأذن لهم بالهجرة، فأذِن لهم بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا إليها أفواجاً، بعد أن هيّأ النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- المدينة لذلك مُسبقاً، فآواهم الأنصار وتقاسموا معهم أموالهم، ولم يبقَ من المسلمين في مكّة إلا عدد يسير منهم، على رأسهم النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- وأبو بكر الصدّيق وعليّ- رضي الله عنهما- وغيرهم ممّن كان به مرض، أو عجز، أو حبس.
بعد ذلك خشيت قريش أن يخرج النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- ويفرَّ ومن معه من المسلمين بالدّعوة، ويصبح لهم كيان مستقلّ، وشوكة ومنعة وقوّة، فاجتمعوا للتشاور في أمره، وكان اجتماعهم في دار النّدوة، وكان ممّن حضر ذلك الاجتماع إبليس، وقد تصوَّر على هيئة شيخ نجديّ، فأشاروا بعدّة آراء، وكان إبليس يرفضها، حتّى قال أبو جهل: (نأخذ من كلّ قبيلة من قريش غلاماً بسيف، فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرّق دمه في القبائل، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب الكلّ)، فقال إبليس: (هذا هو الرّأي)، فأجمعوا على تنفيذ هذه الخطة، إلّا أنّ جبريل- عليه السّلام- أخبر النبيَّ بذلك، فعزم على ترك مضجعه والهجرة في تلك الليلة، وجعل عليّاً مكانه، فلمّا دخل الليل اجتمعوا على بابه يترقّبون نومه ليقتلوه، فخرج عليهم وألقى حفنة تراب في وجوههم، فلم يرَوه، وهاجر برفقة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتّى وصلا المدينة المنورة وأقاما فيها. فكانت هجرته عليه السلام وصاحبه، بداية طيبة لحياة كريمة، وعهد جديد.
سلام من الله عليك يا رسول الله في ذكرى مولدك، وعلى آله وصحبه وسلم.



