قراءة في كتاب" ربما في صباح آخر "
بقلم - د. عزة بدر
" ربما فى صباح آخر " أحدث ديوان شعرى للشاعر والطبيب عيد صالح , وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب .
بدأ رحلته الشعرية عام 1965 فنشر قصائده فى مجلة " الأدب " لأمين الخولى , وفى مجلة " سنابل " عام 1968 , وأصدر تسعة دواوين شعرية , منها : " شتاء الأسئلة " , و " سعفة من زمان جريح " , و" أنشودة الزان " , و" خريف المرايا " , و" رحيق الهباء " , يرفد الحركة الشعرية المصرية بقصائد مزجت بين التمتع بالموسيقى والانفتاح على منجزات الحداثة , يسهم بجهد وافر مع جماعة رواد الأدبية فى دمياط فى إثراء الساحة الثقافية المصرية .
يقول عن نفسه " أنا شاعر لنصف الوقت , وطبيب لنصف الوقت " ومع ذلك فالزمن فى أشعاره عنصر درامى مهم , يدفعه لتأمل رحلة الوجود الإنسانى فهو فى بحث دائم عن حضور الذات فى عالم مزدحم بالصراعات , والضوضاء , ويصبح الزمن عنده رمزا حافلا مشحونا بالأمل والتحقق , بل بأعياد للإنسانية والناس .

يقول فى إحدى قصائد ديوانه الجديد " ربما فى صباح آخر " :
" ثمة غد لا يبوح بسره
ونافذة تستقبل الصباح
وفتيات يخطرن فى ثياب جديدة
وجموع غفيرة
يحتشدون فى الميادين والحدائق
ثمة عيد حقيقى
وبالتأكيد
لن يكون الأخير " .
عالمه الشعرى
يهتم عيد صالح بالصورة الشعرية , ويراها التجسيد الحى لما يتجلى لحظة الكتابة فيقول :
" مفتون أنا بالصورة لا بجمالها وظلالها وألوانها ولكن لأنها جمال الشعر وفتنة القصيدة لأنها الوعاء والثوب والجسد معا هي الأعضاء المتحركة في ديناميك النص الجميل الساحر الغامض" .
عالمه الشعرى ثرى فقد اهتم بكتابة المشهدي واليومي والسردي , و الحكائية من ملامح قصيدته إذ يفتح مجالا واسعا للإفضاء والبوح الذاتى مستفيدا من تقنيات تصوير تيار الشعور , وأحلام الفرد , وكوابيسه , وآماله التى تطل دائما كنبتة أو كسعفة من زمان جريح .
يقول فى مقدمة ديوانه :
" تعالوا إلىّ جميعا يا أحبائى
لنحتفل معا
بأننا لا زلنا على قيد الحياة
الحياة التى أخلفت موعدها معنا
كباص لا يجىء فى موعده
وعربة بلا مقود
وحبيبة نسيت الغرير الذى صدقها
وحالم سقط على عريشة ياسمين
واستيقظ فى هجير الصحراء
لكنه مازال يحلم
أن ينبثق الماء
فى حجر إسماعيل " .
تحلق أشعار عيد صالح فى عوالم مختلفة , وفى حضرة الذات والتجربة , وفى لحظة الكتابة فهو يقول : لاخوف على القصيدة ولا حدود للكتابة , لا تخوم ولا فواصل أو حتى أقواس ,
حتي لو كانت أقواس قزح أو أطياف بورخيس أو من أكتافيو باث , فهو يؤمن بوحدة الفنون التي تداخلت واندمجت بانشطارات الحداثة وما بعدها حد الإلغاء النوعي وصولا للكتابة المنطلقة المنعتقة التي لا تحدها أجناس ولا يحمي شواطئها كهان أو حراس
فقط علي المبدع أن يفتح سراديبه وأعطافه وخوابيه لتنطلق الملائكة والشياطين والأطفال والشيوخ والهواجس والأغنيات والصراخ والعشق والأحجيات والحيوات , وتجليات الطبيعة الأمطار و الزلازل والفيضانات , والبشر, وحتى الصرخات ضد الموت و التشبث بالحياة .
وفى قصيدته " مراودة " يقول :
" أراود نفسى عن نفسى
علّى أنفذ عبر تلابيبى
عبر مسامى وخوابى
عبر محاراتى من زبد الشاطىء
أرفف روحى
أشيائى المتربة المرصوصة
أهرامات رمالى
كوخى فى تبة وجدانى
عصفورى الآبق
أجنحتى المكسورة
فى آخر جولاتى فى الغابة / عُشى مسجور / جُب مهجور / رابية تنعى رايتها / جبل العتمة والنور / قلت / لعلى حين أجمع نفسى / وأقدمنى لى / فى حضرة ذاتى / أخرج منى / أدخل فىّ / عبر خلاياى المتقدة / عبر عروجى / وولوجى / ونفاذى / عبر الضوء / الألق الرائق والذائب / عبر هيولى / المُزن / مزاج اللحظات الفذة / باللبن السرسوب / يُعمد طفل الرؤيا / بمجاز أخاذ / ومواجيد فؤاد يتقلب فى بوتقة الحلم / البوح / الشطحات / النفحات / الماء / العشب النار " .
أن أكتب الطبيب وأعيش الشاعر
لايزال حلم عيد صالح أن يصور مهنة الطب داخل القصيدة لذا فهو يطمح أن يكتب الطبيب ويعيش الشاعر فهناك الكثير من القصائد لم يجد الوقت لكتابتها بعد فالشعر والطب يتنازعانه طول الوقت فهو يقول عنهما :
لابد أن أشير إلي مهنة الطب لا باعتبارها حرفة ولا باعتبارها رسالة فقط ولكن باعتبارها حياة كاملة تستوعب الإنسان وتطحنه وتبتلعه في جوفها الهائل داخل حجرة العمليات حيث يلتقي الموت بالحياة ويختلط العرق بالابتسامات بالآهات .
لا شيء يعدل غوصك في الجرح وانتزاعك شوكة الألم الممض , لا شيئ أجمل من لحظات الصدق حين يتجلي الانسان ضعيفا بريئا خائفا ونظرات الألم والأمل وابتسامة واهنة ورجاء واعد بعودة جميلة للحياة .
لكنها أيضا مهنة الطب التي شغلتنى عن عشرات القصائد والقصص والحكايات ولم أجد الوقت ولا الظروف لأكتبها وأنا أمارس المهنة العظيمة القاسية الرحيمة الجميلة المرعبة الحانية
وهى المهنة التى تظل أبدا المتأبية السامقة , ولازال لدىّ أمل غال في ترويضها داخل القصيدة النص ويظل طموحي أن أكتب الطبيب متألقا محاربا في جيش الإنسانية العظيم ضد المرض : العدو المتوحش الذى يتسلل داخل الجسد ويستولي علي حصونه ودفاعاته وينصب أسلحته الفتاكة لتتساقط الأجساد وتتوقف القلوب وتسكت الأدمغة ونقف عاجزين مكتوفي الأيدي والمشارط والأجهزة .
ونستغرق في البكاء علي المصير الانساني الفادح , و يظل طموحي أن أكتب الطبيب الذي ذكرت وأعيش الشاعر في بساطته ورقته وهشاشته وقوته واندفاعه وثورته وغضبه , في طيرانه المستحيل واختراقه الفذ كأنه شعاع كوني تتبع بوصلته هدفا خرافيا تشدة وتلتهمه وتتمثله نصوص جميلة لعينة شقية حبيبة حبيبة .
الثورة على الذات
النفس الإنسانية الموارة بالمشاعر , تلك النفس التى تتطلع لقفزة خارج حواجزها هى موضوع هذه القصائد فى بعدها الإنسانى العميق حيث حملت القصائد ثورة الذات المبدعة على نفسها فى محاولة لتحقيق صباها المنشود متمثلا فى التمرد على واقع ترهلت فيه ملامح الذكريات حيث تستعيد النفس صورها المنشودة وفرصها الضائعة , عسى أن يكون الغد أكثر جمالا وإشراقا وتحققا فيقول الشاعر فى قصيدته " تقاسيم " :
" لن أنتظر كعجوز يقعى بباب مقبرته / ولا نادبة فقدت صوتها من كثرة الولولة / ولا أرملة
لطخت وجهها بدم زوجها المهراق / فى شرخ الشباب / لن أبكى على حبيباتى الساذجات /
ولا فرصى الضائعة / فى أمسيات الهجر والعناد / وأنا أنتعل كرامة العجزوالانتحال / وأنا أدفن رأسى الصلعاء / فى مخدتى الملولة المهترئة / لن أركب خيالى المغدور / وأنا أحلق
خارج نطاق الجاذبية / ممتشقا قريحتى الهلامية / مدونا فى السديم / قصائدى البائسة / فقط
سأطيح بما بقى لى / من كهولتى / وصبابتى الطائشة / فى قفزة خارج الكينونة " .
وهكذا تتمثل لنا نفس تود الانعتاق من قيودها , تتحرر مما يشدها إلى الوراء , وتتطلع إلى قفزة خارج الذات المكبلة بما مضى , وتتحرر من خلال مراجعة النفس , والتخلص من أصفادها .
وتمسك القصائد بهذا المناخ النفسى الثائر على الطلول والبقايا الذاهبة ليستبطن الشاعر مشاعره الثائرة مخاطبا تيار الشعور الجارف بالثورة على الذات فيقول فى قصيدة " مراودة " " لا تضرمى النار فى دمى المتخثر / فى جغرافيا الجسد المترنح / فى أرخبيلات غيض ماؤها
وتداعت عليها صروف الزمان / من أنا قلت / ماردَّ الصدى / والمدى غيم وغياهب / والأفق فى ازورار النهار طلسم / والمدار ماكينة تطحن الرأس فى لذة وسُعار / زملينى / فقد مزقتنى الأعاصير / فى مدن الأشباح / وانكفأ القوم على القدور / يطبخون الحصى / ويعلكون صبارالانتظار " .
ميلاد الأناشيد
القصيدة هى تحقق هذه النفس , والمعادل الموضوعى للذات المأزومة فكتابتها خلاص , ففى البدء كانت الكلمة .
والتغريد خارج السرب , وبعيدا عن نطاق الجاذبية يعنى التسامى والتحليق عاليا , وعندما تضيق العبارة يقول الشاعر " وأنا أحلق خارج نطاق الجاذبية / ممتشقا قريحتى الهلامية / مدونا فى السديم قصائدى البائسة " .
وعندما يتسع المعنى فإنه أيضا يعنى انفتاح النص على عوالم جديدة , و أناشيد جديدة فيقول الشاعر : " قلت / ربما يجرف النيل قحط الفصول / ويفيض بالسنبلات الخُضر / والفوم والقثاء / ربما تخط السماء ميلاد ورد الربيع / فى شتاء انتظارنا الملول / ربما نخرج من تيه غربتنا / حين يغمرنا المد والأناشيد / لا خوف / لا استكانة / لا انتحال / فى حولية الانكفاء والذبول " .
عيد صالح رحلة شعرية ثرية , تتوهج إذ تتعمق أبعاد الذات الإنسانية , وتلمس قلب الأشياء
وتقبض على سعفة خضراء , هى الكلمة الشاعرة وبها ومعها , تتفجر ينابيع الصفو والإبداع .



