عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تراتيل السلام (2)

تراتيل السلام (2)

وهكذا؛ اتخذ الرئيس «السادات» المبادرة، وتحمَّل الرجُل من الاتهامات والإهانات والضغوط ما لم يتحمله رئيسٌ من قبل. لكن الرجُل كان قارئًا جيدًا لمجريات الأمور السياسية فى العالم. ويرى جيدًا الزحف الغربى على العالم، كما كان يرى أن الاتحاد السوفيتى فى طريقه للفناء. وقَّع الرجُل على اتفاقية السلام وهو يعلم جيدًا أنه بدأ الخطوة الأولى، ويعلم أيضًا أنه كان بداية الطريق وسيلحقه الباقون صاغرين مُرغَمين. فوضع مصر فى مكانتها كدولة كبرَى فى المنطقة. تبدأ ويلحقها الآخرون.  



بمجرد توقيع «السادات» و«بيجين» و«كارتر» على اتفاقية السلام كان التوقيع إعلانًا لتغيير العالم. تغيير اللعبة السياسية العالمية. أصبح لاعبوها قدامَى لا يصلحون للعبة الجديدة. وكان لا بُدَّ من لاعبين جُدُد لإدارة اللعبة الجديدة. لاعبون لا يحملون أثقال التغيير ولا يحملون أوزار الماضى. ففى خلال ثلاث سنوات اختفى «السادات» بطريقة دراماتيكية واختفى «كارتر وبيجين وشاه إيران محمد رضا بهلوى والملك خالد». 

وظهر «رونالد ريجان ومارجريت تاتشر وفرانسوا ميتران وصدام حسين وآية الله الخومينى والملك فهد»؛ ليدخل العالمُ عصرًا جديدًا من الصراع السياسى. كان ذلك نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات. اتخذت القضية الفلسطينية طريقًا آخر. طريق الضياع المُمَنهج والتشتُّت المُخَطط. فقد زادت حدة التناقضات فى العالم العربى؛ خصوصًا دول الخليج من حقيقة أن كثيرًا منها وجدت أموالها تتكاثر بسرعة مخيفة؛ نتيجة ارتفاع أسعار النفط بعد معارك سنة 1973م؛ حيث وجدت نفسَها تتأرجح بين نزاعات رهيبة. فهى بالتأكيد تريد هذا التقارُب الذى بدأه الرئيس «السادات» مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل.

 وهى بالتأكيد تريد خروج الاتحاد السوفيتى بأيديولوجيته وسلاحه ونفوذه السياسى من المنطقة. وهى تريد صُلحًا مع إسرائيل يقوم بها غيرها ويرفع عن كاهلها أعباء هذا الصراع، المادية والنفسية. لكنها فى الوقت نفسه تشعر عُمق الانتماء القومى لدَى شعوبها الخارجة لتوّها من سنوات حروب مع إسرائيل. وكانت الصيغة العبقرية التى توصلت إليها بعض دول النفط هى التأييد الصامت للرئيس «السادات» سياسيًّا والدعم المعنوى الخفى، وفى الوقت نفسه إسكات منظمة التحرير الفلسطينية بإغرائها بالمال الوفير. وهكذا أصبحت القضية الفلسطينية فى جانب منها تحوّلت إلى نموذج لم يسبق له مَثيل من قبل فى التاريخ. فقد أصبحت قضية البترودولارية. وكانت أول أرض جرت فيها تجربة الثورة البترودولارية هى بيروت. 

وهكذا نشأت وتوثقت علاقة عجيبة بين أصحاب العقائد والمواقف وخزائن البنوك، وبين الفدائيين ومَلكات الجمال، وبين الثوار وأمراء النفط. وحين بدت عاصمة المال العربى بيروت تتحول لتصبح فى الوقت نفسه عاصمة الثورة الفلسطينية؛ فإن الآلاف من الفلسطينيين؛ خصوصًا من الذين ضاق بهم الأردن بعد صدامه مع المقاومة الفلسطينية راحوا يتجهون إلى لبنان يتخذونه مقرًّا رُغم كل مقولات «ياسر عرفات» بأن لبنان لن يكون مقرًّا وإنما ممر مؤقت إلى فلسطين. فقد كانت الثورة الفلسطينية قد تجاوزت بعض الشىء فى القاهرة، لكن القاهرة كانت قادرة على ردع أى تجاوز وبشكل سريع. 

وتجاوزت الثورة الفلسطينية بعد ذلك فى عَمَّان، ولزم الأمرُ استعمال قوة الجيش الأردنى لاقتلاعها من الأردن كله قبل أن تستفحل. فقد كان الملك «الحسين بن طلال» يعلم مبكرًا بحُكم علاقاته الغامضة بإسرائيل والغرب ما سيتم فى المستقبل من تسويات ولم يرد أن تدفع دولته الثمَن وتكون أرضه مكانًا  للتسويه. ففى لبنان كانت الثورة الفلسطينية مصممة على التشبُّث بالموقع اللبنانى. فهو ملجؤها الأخير ولم يكن فى مقدور الدولة اللبنانية بكل أدوات الدولة أن تتصدّى لها.

 وكانت قيادة المقاومة الفلسطينية فى لبنان تتلقى إشارات ورسائل من كل اتجاه. رسائل من إسرائيل عن طريق مصر. نصائح لكيفية التعامل مع إسرائيل من الدولية الاشتراكية ومن كرايسكى بالتحديد ورسائل من مبعوثى منظمة التحرير وأهمهم الدكتور «عصام السرطاوى» عن معلومات وآراء أبلغت إليه، ورسائل من دبلوماسيين معتمدين يمثلون دولًا أوروبية، ورسائل من بعض عناصر المكتب الثانى اللبنانى «المخابرات» تؤكد على الحذر وتنصح بتقصير الخطوط، ثم رسائل عن طريق أساتذة جامعات «أكاديميين» يعملون داخل مؤسّسات سياسية واستراتيجية تهتم بكتابة الأوراق فى الظاهر لكنها فى واقع الأمر غارقة حتى الأذان فى نقل المعلومات والتوجيهات وحتى الصياغات من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا. والحقيقة أن معظم هذه المراكز؛ خصوصًا تلك التى انتشرت على نحو واسع فى الولايات المتحدة فى تلك الأيام بدأت تلعب دورًا فادحًا فى إعادة صياغة عقل عديدين بين المفكرين العرب وتعطيهم الإحساس الزائف بأنهم أطراف فى اللعبة وفى صناعة فكر سياسى جديد. وبالتأكيد؛ فإن كثيرين من هؤلاء المفكرين العرب كانوا قادرين على صناعة وصياغة الفكر. لكن الفوضَى والأجواء المزدحمة بالأوراق والسيناريوهات والتوجهات أشاعت شيئًا من العشوائية وشيئًا من الخلط بين الثوابت والمتغيرات، وبين الحقائق والافتراضات، وبين الوسائل والغايات. واشتدت عملية تطويع العقل العربى التى بدأت منتصف السبعينيات. 

وحين جاءت الثمانينيات كانت هذه العملية قد بلغت الذروة تدعو إلى القلق؛ لأن الفكر العربى بالفعل تعرَّض فى هذه المرحلة لحالة تشبه حالة سيولة الدم ولم يكن مطلوبًا أن يكون الفكر العربى جامدًا فى مواجهة رياح للتغيير تهب على العالم عامّة وعلى المنطقة خاصة، ولا أن تكون دورته الدموية مصابة بحالة تجلط؛ وإنما الوضع الأمثل أن يكون الفكر العربى صحيًّا متجددًا بالأوكسجين النقى متدفقًا فى دورته مجددًا لحيويته ونشاطه. ومرن. لكن الذى حدث أن لا الجمود بقى ولا الحيوية تجددت ولا المرونة تحققت. فقد كثرت المؤتمرات والندوات واللقاءات ولم تكن فى معظمها لوجه المعرفة لكنها فى الغالب الأعم أصبحت وسيلة لكسر حواجز ولإقامة علاقات ولنقل توجهات وصياغات، بل تمت صياغة تعبيرات تجرى على الألسن فى البداية ثم تستقر فى الفهم والعقل وتنعكس فى التصرفات لتؤثر على القرارات. 

وهى عملية كانت قد اخترعتها المصالح الأمريكية الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية حين أرادت استيعاب المفكرين الأمريكيين فى أوعية تساعد توجهاتها ولا تتصدى لهذه التوجهات كما كاد يحدث بعد الحرب العالمية الأولى حين أوشك الفكر الأمريكى أن يشد الولايات المتحدة فى اتجاه الشيوعية. وبالاستفادة من عِبرة التجربة؛ فإن المصالح الأمريكية الكبرى مثل مصالح روكفللر وفورد وكارنيجى وراند راحت تنشئ مؤسّسات للتفكير والبحث وجد فيها مفكرون أمريكيون من طراز «هنرى كيسنجر وروبرت ماكنمارا وماك جورج باندى وآرثر شليزنجر وبريجنيسكى» أنهم بالقرب من قمة السُّلطة يعملون فى إطار عملهم ومن فوق مقاعدهم الأستاذية ويشاركون فى صنع القرار. هذه العملية إلى حد ما مورست مع مفكرى العالم الثالث مع الفارق الكبير فى الطريقة وفى الهدف.

 كان المطلوب من الفكر الأمريكى أن يشارك ولا ينعزل ولا يتمرد. أمَّا المطلوب من الفكر العربى فكان شيئًا آخر. الترويض والتطويع حتى يتم الاستيعاب. ومن تلك التحضيرات بدأ الطريق إلى أوسلو. كان بطل المرحلة محمود عباس (أبو مازن)؛ لتدخل القضية طريقًا جديدًا، وكان لا بُدَّ أن يختفى اللاعبون القدامَى. كانت نهاية «ياسر عرفات وإسحق رابين وحافظ الأسد وصدام حسين ورفيق الحريرى والملك فهد والملك حسين وجارانج». دفعة تغيير جديدة استمرت لخمس سنوات لتبدأ لعبة جديدة. طريق جديد اسمه الطريق لصفقة القرن.  

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز