عشق التروس
أكثر من أربعين قصة قصيرة تضمنتها مجموعة "عشق التروس" للكاتبة د.عطيات أبو العينين
وتبدو القصص كومضات ساطعة، وترصد حالات شعورية مختلفة، وإن كان معظمها يتأمل حالة من الصمت الموحى، الذي خصصت له الكاتبة أكثر من قصة، ومنها "عيون الصمت"، حيث تبحث بطلتها عن ثورة من كلمات، بل وتهتم تلك الومضة بالتعرف على الصمت الحقيقي لأول مرة، ووجها لوجه فتقول "وليس الصمت أن تسكت، ولكن أن تُسكت ذلك الإحساس بالقلق الذي يضطرم بداخلك، فيتوهج ويطغى على صمت اللسان". تنويعات على لحن الصمت.
وربما تكون هذه القصص تنويعات على لحن الصمت الكاشف لجوانب النفس الإنسانية الغامضة، والمخبوء من معاناة الفرد في عالم يتعامل معه كترس في آلة ، وحيث لا يستطيع أن ينفلت هاربا من تعشيقات التروس، وتتساءل بطلتها في أسى في قصتها عنوان المجموعة "عشق التروس": "زغدة منه لأنهض على الفور، أنفذ ما يطلبه دون روح، فالحركة من ترس لآخر، وتغيير اتجاه حركتها، لا يكسب التروس مرونة، أو يدفعها لتغيير حركتها، وبرغم عشق التروس بعضها لبعض، والتحامها معًا بتعشيقاتها، لا لتبادلها حبا بحب، بل تنبري وتتآكل أسنانها، وهي تبدو للجميع أكثر التحاما، فما يكلف القرص نفسه عناء السؤال عن تعشيقاته، هل هي سعيدة بدورانها، والتحامها مع الترس في فُلك آلتها أم لا؟".
على هذا النحو من التأمل العميق، وأنسنة الأشياء والجوامد تمضي الكاتبة في قصصها التي تتخذ أحيانا سؤالا لم يجب عنه أحد فيصبح مثل ورطة تواجهه بطلتها دون إجابة فتقول في ومضة بعنوان "ورطة دمعية": "حارت وحرت معها.. ميلاد.. فرح .. حرمان.. وجع.. موت.. حزن عبر المسافات، عمرنا دموع يفتح نهرا جديدا على خد الزمان، انسابت دموع الفرح برغم ملوحتها، قد نبكى من الفرح أو من الحزن بعد أن نعجز عن الكلام.. من يخرجني من تلك الورطة الدمعية؟".
جدارية الدمع، ويأتي تصوير بعض القصص عميقا منحوتا على جدارية من الدمع، يصف لوحة حياة امرأة حولت معاناتها إلى أفعال ايجابية، فصنعت من صمتها عرائس، تراكمت، وازدحمت في خزانتها، وتكشف القصة مأساة المرأة برهافة، مثيرة للدهشة والأسى معا كالتي طرزت ثوبها من دمعها، وهي من أكثر ومضات هذه القصص سطوعا، فتقول الكاتبة في أقصوصتها وهي بعنوان "سر الدميتين": "فتح الصندوق، وجد بداخله دميتين من القماش، وإبر للكروشيه، أسفلها مبلغ خمسة وعشرين جنيها، سألها عن تلك الأشياء، همست: "عندما تزوجتك أبلغتني جدتي أن سر الزواج الناجح يكمن في تفادي الجدل والمشاكل، ونصحتني بأنه كلما غضبت منك، أكتم غضبي، وأقوم بصنع دمية من القماش مستخدمة هذه الإبر.
لمعت بعينيه دمعتان بينما كان يحدث نفسه: دميتان فقط؟ أي لم تغضب مني طوال ستين عاما سوى مرتين.
رغم حزنه على كون زوجته في فراش الموت، أحس بالسعادة، لأنه فهم أنه لم يغضبها سوى مرتين، سألها– حسنا عرفنا سر الدميتين، لكن ماذا عن الخمسة وعشرين ألف جنيه؟
أجابته: هذا المبلغ جمعته من بيع الدمى".
تحمل القصة دلالاتها الغنية فتفصح عما عاشته هذه المرأة من غضب مكتوم، حاولت أن تحوله بصبر إلى عمل منتج، كانت جذوره وبذوره من ألم، وتوشك القصة بين سطورها أن تدين نصيحة الجدة أو تراثها ومعارفها عن الزواج، والتي أورثته حفيدتها روشتة للنجاح، فها هي الحفيدة على فراش الموت عاشت غضبي، محاولة أن تكتسب بصبرها وعرائسها معنى لحياتها البائسة، ولعل اختيار العرائس أو صناعة الدمي هو استمرار صامت لمعاني الطفولة السعيدة، التي كانت تلهو فيها تلك المرأة، وهي صغيرة بالدمي، وكأن في إنتاج الدمي من جديد محاولة للعودة إلى الصبا أو الزمن السعيد، والتشبث بعالمه الذي أورثها سرورا ذات يوم بعيد، وها هو اكتناز الخبرة الطفولية ينضج على مهل ليصبح زادا نفسيا يبدو ثروة هذه المرأة، التي لم ترد أن تضيع حياتها عبثا، ولا أن تذهب جهودها في محاولة أن ينجح زواجها سدى، بينما موقف الزوج يدعو للتأمل فهو لم يشعر بغضب امرأته ولا معاناتها طوال سنى زواجهما، ويكتشف حقيقة هذه الزيجة البائسة في آخر لحظة، عندما أوشكت الزوجة أن تفارق الحياة.
لقد بلغ صمتها ذروته فانتهت حياتها ولم تعبر عنه مرة، فهل نجح زواجها حقا؟ أم أنها مضت مع تعشيقات التروس لا تدري أيها طواها بين أسنانه؟، وأيها أدمى قلبها، وجرح مشاعرها، أسلمها ترس لآخر، وأودت بها دائرة تروس إلى حب وهمى، وصمت غاضب كلفها حياتها نفسها.
وفى الومضات حالات مختلفة لنساء صامتات لكن بعضهن يتمرد على الآلة التي يدور فيها، فبطلتها في قصة: "إلياي"، تتمرد على قيودها، لتأتى صرختها مدوية" أنا حرة"، ولترصد التناقض الذى يجعل بطلتها امرأة مضيعة بين قيود مجتمعها ورغبتها في تحقيق ذاتها ، فتهتف "يرون حريتهم في قيدي، وراحتهم في ألمى"، لكنها تتمرد على هذا الوضع، وتصف الكاتبة في لوحة تصويرية هذه المرأة المقيدة فتقول: "مقيدة بجنازير حديدية، أتحرك كإلياي المربوط بالزنبرك، ما كدت أخطو خطوة حتى أعود إلى وثاقي، إنهم يتقنون فنون اللعبة ، كم امقت الزنبرك وإلياي والقيد، أمقتهم جميعا".
ثم تنجح في تمردها وانعتاقها من قيدها فتقول: "لكنني لست باللعبة ولا بإلياي، انتزعت نفسي انتزاعا، قطعت كل الدوائر، صرخت في وجوههم، أنا حرة".
وتعالج بعض قصص المجموعة هذا الخيط الرفيع الذي يتمزق بين زوجين بسبب الغيرة والشك لمجرد سماع رنة هاتف، وكأن بيتهما مشيد ومنسوج بأوهى الخيوط ، وكأنه بيت عنكبوت، يكاد أن يتهاوى قبض ريح في قصة "نفد الهيليوم"، وهو الذي يملأ البالون الذي ارتفع في سماء بيتهما على شكل قلب، وترصد الكاتبة هذا القلب الممتلئ بالهيليوم من بداية سعيدة إلى نهاية مؤلمة، فمن امتلاء إلى خواء وكأن الأشياء تشارك أبطالها قصص الحب والبدايات بل والنهايات أيضا فتقول: "رن جرس الهاتف، تقطيبة وسؤال حائر في عينيها لم تكد تسأله عن المتحدث، دق هاتفها ونظرة شك في عينيه، يهبط القلب قليلا، تسحب يدها من يده.
- أنت مكابر
- أنت عنيدة
يهبط القلب رويدا رويدا
- أنت مغرورة
- أنت أحمق
توقفت نظراتهما، تجمدت البسمة على شفاههما، يسقط قلب الهيليوم، يزحف أرضا، سحبت يدها من يده ترك يده نهائيا، يحاول قلب الهيليوم الصعود، تطوعت العروس برفعه لكنها سقطت على رأسها، مد الدب يده محاولا إنقاذ القلب، فترنح بجسده الهائل، القلب يسقط، ينهار، يتداعى، يحاولان المقاومة لإنقاذه، دفعاه بأيديهما لكنه سقط على الأرض بلا حراك، لقد نفد الهيليوم".
أسئلة المرجان، وتأتى قصة "أشواك المرجان" لتتوج قصص هذه المجموعة من الومضات، ولتبلغ تأملات الكاتبة ذروتها الفنية في تعمق الأشياء والموجودات، وعلاقتها بالإنسان، لتتشابه مشاعر بطلتها مع المرجان الذي يتساءل هو أيضا عن كينونته وذاته، ويصبح سؤال المرأة في هذه القصة هو تساؤل المرجان أيضا، ويمكننا أن نلمح أوجه التشابه، بين طبيعتين، الجماد بصلابته وجموده والنبات بليونته وطراوته، وبينهما يقع المرجان، وكذلك بطلة القصة، التي تواصل الأسئلة حائرة باحثة عن جواب لسؤال يبدو طرحه مدعاة للدوران في دائرة الصمت من جديد، الصمت المفعم بالكلام وبالأسئلة فتقول الكاتبة: "أنا والمرجان دائما في حيرة، هل ننتمى لعالم الجماد؟، أم ننتمي لعالم النبات؟
فأنا أشبه الجماد في تحجره، وأشبه النبات بكونه أشجارا نابتة في قاع البحر، ذوات عروق وأغصان خضر، متشعبة قائمة كأني تحولت لأشواك المرجان، فما أنا إلا إنسانة طردتها الحيوية من عقر دارها، وجافاها الحب، وهجرتها الحياة إلى غير رجعة، فترى هل سترجح كفة الجماد أم النبات؟، وإلى أيهما سأميل؟".
إنها أسئلة الصمت العميق، وتجلياته في ومضات آسرة استطاعت أن تبلور رؤى حول معاناة الإنسان المعاصر، الذي يتمرد على عشق التروس، ويريد أن يشعر بإنسانيته من خلال الحب والإحساس بالتعاطف والمشاركة.
وهذه المجموعة القصصية الجديدة للكاتبة د. عطيات أبو العينين هي أحدث كتاباتها، وقد صدرت عن فنون للطباعة 2020، وللكاتبة العديد من الأعمال القصصية والروائية منها: "مرارة المشمش" قصص، ومن رواياتها: "مهسوري"، و "رقص العقارب"، و"داروما"، و"باربيكيا".



