من الصعوبة الشديدة أن تجد سياسيًا قادرًا على إقناعك بمشروعه وأجندته، كي تُقبل على اختياره، ومنحه صوتك في الصندوق الانتخابي، لأن الأحزاب السياسية أصبحت كعليل لا يثق في الدواء، يبتلعه رغمًا عنه، ولا يرجو من الله أن تعود الصحة لبدنه، ليعاود العمل من جديد، حال الأحزاب اليوم هو على إحدى صورتين، إما أحزاب تحاول أن تروّج لنفسها بأنها قريبة من هموم الناس، أو أحزاب تحاول أن تروّج بأنها قريبة من السلطة، والنتيجة النهائية أننا نقترب من الانتخابات البرلمانية، ولم يظهر حتى اللحظة قامات سياسية، يلتف حولها الشارع، وتحوز احترام الصفوة.
أزمة الأحزاب متعلقة بالأداء غير المتوازن، من حيث النشاط المفرط قبل الانتخابات، ثم خمول مخزٍ بعدها، والمرحلة التالية على ذلك مباشرة هي البحث عن شماعة، كي يعلقوا عليها أسباب عزوف الشارع عنهم، كعدم تلقيهم الدعم اللازم من الدولة، وهذه الحجة تحديدًا أصبحت واهية؛ لأن الدولة هي أكبر متحمس لنشاط الأحزاب، حتى أكثر من الأحزاب نفسها، هذا إن رضخنا لتفسير الأحزاب لمفهوم الدولة، الذي يغفل عنصر الشعب من التعريف؛ لأنه يقع بالكامل في جعبتهم، وهم المسؤولون عن تأييد الشارع لهم، أو عزوفه عنهم.
يبدو أن الأحزاب فقدت بوصلة العمل السياسي مع كل قامة سياسية قوية ترحل عن عالمنا، وهذه هي مأساتنا الحقيقية، فالجيل الذي تربى على لذة العطاء، رحل بأكمله عن عالمنا، أو أصبح غير قادر على استكمال مسيرته، بعد أن رُد إلى أرذل العمر، أما جيل الوسط فكان سببًا في تسطيح الحياة السياسية ولعب بالنار كثيرًا قبل أحداث يناير، إما في محاولاته لقهر جيل الشباب، أو لمواءماته السياسية، التى أفقدت الحياة الحزبية احترامها في الشارع، وأصبح هذا الجيل، هم شيوخ الأحزاب الآن، لذلك لا أتوقع أن نشهد طفرة في نشاط الأحزاب، ما لم يتصد الشباب الواعي سياسيًا، لرسم خطط وأجندة أحزابهم.
قوة الأحزاب السياسية الحقيقية، هي في ممارسة دور الرقابة على أعمال الحكومة، والقوة هنا تكمن في منهجية العمل الرقابي، التي تُظهر مدى امتلاك الأحزاب كوادر سياسية حقيقية.
الدور الرقابي البناء، يكمن في اعتياد تقديم تقرير دوري حول رؤية الحزب في خطط الحكومة، ويشمل هذا التقرير رأي الحزب بشكل عام، في مدى قابلية هذه الخطة، لتحقيق التنمية المرجوة، ثم متابعة الخطط الزمنية، التي وضعها كل مسؤول، ونسبة التزامه بها والعوائق التى تواجهه، وفي هذه النقطة تحديدًا، ومن منطلق وطني بحت، على الأحزاب أن تقدم العون للمسؤول إن كان بمقدورها، لأن الهدف هنا هو إعلاء قيمة المصلحة العامة، وليس تصيد الأخطاء، مع عدم القدرة على تقديم حلول بديلة، قابلة للتطبيق العملي.
من الأدوار المهمة للأحزاب، أيضاً، أنها مدارس سياسية للشعوب، فهي المسؤول الأول عن تثقيف الجمهور سياسيًا، بغض النظر عن ميلها الأيديولوجي، فهي التي تعمل بشكل كبير على حفظ حق المواطن في الإدلاء بصوته الانتخابي، وذلك من خلال توعيته بأهمية التزامه بالتعبير عن رأيه، من خلال صندوق الانتخابات، وبالتالي هي مسؤولة بالضرورة عن نشر ثقافة الممارسة الديمقراطية، ومسؤولة أيضًا عن نشر التوعية بخصوص النظام السياسي للدولة، والحقوق والواجبات، في إطار الدستور والقانون، وذلك من خلال التفاعل الحر والمباشر مع الجمهور ووسائل الإعلام، وهذا يفرض عليها أن تخرج من أداء الشقق المفروشة والمقرات المغلقة، الذي اعتادت عليه عقودًا طويلة، وأن تكتسب مرونة التعامل مع الجمهور، وجذب أكبر عدد منه تحت مظلتها.
الأحزاب أيضًا هي المسؤولة عن تعريف الجمهور بالأساليب المشروعة، للمطالبة بالحقوق، أو الإبلاغ عن الشكاوى، وتقديم مقترحات قابلة للتنفيذ لحلها، من خلال دور الأحزاب كهمزة وصل بين المسؤول والجمهور، وهذا يُعيدنا إلى النقطة الأولى، فيما يتعلق بدورها الرقابي في إطار بناء مساحة التواصل بينها وبين المسؤولين في الدوائر المختلف بالدولة.
كما أن الأحزاب لها دور مهم في قياس نبض الشارع بشكل حقيقي وواقعي، بعيدًا عن الرأي العام الافتراضي، الذي يُساق عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبذلك تصبح الأحزاب، نافذة على الرأي العام الحقيقي الواقعي.
في النهاية، يمكن القول، إن دور الأحزاب هو حفظ استقرار الدولة، وضمان الأداء السياسي الناضج على المدى الطويل، لكن هذا يحتاج إلى خطة عمل متكاملة، تبدأ من الشارع، وتصل إلى المسؤولين. وننتظر للأحزاب دورًا فاعلًا في الفترة المقبلة، لما لها من أثر إيجابي على تنفيذ الرؤية التنموية للبلاد، ومصلحة المواطن.



