هل هيئة أمى ـ الله يرحمهاـ والإنصات الواضح على وجهها عند متابعتها لمسلسل ألف ليلة وليلة الإذاعي هو ما جعلنى أعشق موسيقى التتر الخاص به، خاصة وأن أمى كانت متعها فى الحياة قليلة لا تتجاوز تلك المتع أن تكون رؤيتها لنا فى أفضل حال، وثناؤنا على ما تقدمه لنا من أكلات لا مثيل لحلاوة طعمها.
صحيح كان يبدو عليها الاستمتاع الشديد بالصلاة وبقراءة القرآن الكريم، إنما دون أن يمنعها هذا من ساعة للقلب تستمع فيها للمسلسل الشهير بصوت زوزو نبيل الفخيم، بعد المقدمة الموسيقية التي تطير بالمستمع على بساط للريح يجوب الحكايات التي كانت تهوى أمي الإستماع إليها وقت إذاعة المسلسل في العصر، وهي جالسة في الشرفة المطلة على رؤس الأشجار التي تزهر قممها بألوان بديعة في الربيع.
وقد ظلت أذنى تستعذب موسيقى التتر الشهير للمسلسل الإذاعى القديم "شهرزاد"، دون أن يخطر ببالي أن مؤلفه ليس مصريا أو عربيا، إلى أن علمت أنه من تأليف الموسيقار الروسي "ريمسكى كورساكوف"، وأنه قد قدمه عام1888.
وبقدر انبهارى بكفاءة كورساكوف فى بعث أجواء الليالى عبر النغم، وبتصويره حال سفينة السندباد عبر البحار وصولا إلى الاحتفالات فى بغداد القديمة، ونجاحه فى إضفاء جو أسطورى جذاب على الحواديت. إنما ولأن عشقى الأول فى الموسيقى الكلاسيك هو لتشايكوفسكى، لذلك فقد رصدت أذنى بقدراتها السمعية الفنية المتواضعة أن تشايكوفسكى قد تأثر جدا بموسيقى شهرزاد، وذلك ليس فقط فى المقطع الرابع عشر من متتالية كسارة البندق وهو مقطع من اسمه يشير إلى أنه ينقل أجواء من الشرق بعنوان الرقصة العربية، لكن أثر موسيقى شهرزاد واضح كذلك فى كونشيرتو الكمان والأوركسترا لتشايكوفسكى، هذا ما لمسته أذني، لكني تجاوزته.
إلى أن قرأت مؤخرا أن كورساكوف هو أستاذ تشايكوفسكى فازددت اقتناعا بأن إحساسى بتأثر هذين العملين لتشايكوفسكى بأستاذه كورساكوف هو أمر وارد جدا. ألم يتأثر معظمنا بأساتذة عظام فى حياتنا، وتشربنا من عبقرياتهم دون أن نقصد، فعلى التلميذ والأستاذ السلام .
أما في الشرق فما قدمته فيروز بالفصحى عن شهرزاد من كلمات وألحان الأخوين رحباني فهو لوحات تبوح وتنوح، وأحيانا تهتف وتصيح، فشهر زاد عند فيروز تبدأ بالشوق، وتنتهي بعدم الإكتفاء، وبينهما تحرير وكسر لقضبان سجن.
فهي تبدأ حيث "للحكايا عطر يعاد" بـ
"يا شهرزاد غني الهوى غني الليالي فالشوق عاد"
وقبل الوصول إلى النهاية نمر بالتحرير:
"إنهضن يا سجينات أنا شهرزاد".
وما يتبع الحرية من صفاء وهناء:
"يا جليس الورد من ليل الصفى، رصَّع الورد ضفاف الأنهر كلما هبت نسيمات هفى زمن الشوق ببال السمر".
وتنتهي بـ :
"طارت الدنيا بمن أهوى وبي
وأفترقنا كيف يا ليل الرّقاد".
ثم ما يتبع الفراق من تأوه:
"ما إكتفينا بعد و الدهر إكتفي فأقطف الأحزان مثلي و إسهرِ
أه يا عينيا لو يُشرى الغفى من عيونٍ ما، لكنت المشتري".
ولا يجب أن نغفل أداء فيروز الساطع، خاصة في كلمة "المشتري" حيث المد في حرف الياء الأخير القريب إلى الصراخ.
وماذا يعيد الصراخ لمن لم يكتف، طالما الدهر قد أسدل الأستار معلنا أنه قد اكتفى.



