

سهام ذهنى
الدنيا ربيع
منذ غنت سعاد حسني كلمات صلاح جاهين المبهجة "الدنيا ربيع" تحولت الأغنية إلى ما يشبه الماركة المسجلة التي تعلن مجئ الربيع.
قبلها كنا لسنوات طويلة نستقبل الربيع عبر صوت عبد الحليم حافظ عند البعض، أو صوت فريد الأطرش عند الآخرين في حفل الربيع السنوي لكل منهما في ليلة شم النسيم.
وبالطبع ظلت أغنية الربيع لفريد الأطرش علامة وراية تعلن أن الربيع قد عاد من تاني، فتنتعش الآذان دون اعتبار لأن الجملة التالية في الأغنية تعبر عن واقع حزين يتساءل عن الحبيب الذي رمى حبيبه من جنة الحب إلى ناره، وأن بقية الكلمات تتضمن نواحا على أيام رضى الزمان.
آخر ربيع عشناه بصوت حليم هو ذلك الربيع الذي تأوه فيه بكلمات نزار قباني ولحن محمد الموجي بأغنيته الشهيرة "قارئة الفنجان" التي على الرغم مما تتضمنه من لحن مبهج مصاحب للكلام عن المرأة التي ضحكتها أنغاما وورود، إلا أن الحقيقة التي نكتشفها خلال الأغنية فهي أنه كان يغني لمواصفات المرأة التي يحلم بها والتي ليس لها وجود، حيث تتحدث الكلمات بعد ذلك صراحة عن الطريق المسدود، وحبيبة القلب الساكنة في قصر مرصود، وأن من يحاول الوصول إليها مفقود، ثم لا يكتفي بهذا بل يصل إلى حد أنه سيعرف بعد رحيل العمر بأنه كان يطارد خيط دخان، حيث أن حبيبة القلب "ليس لها أرض أو وطن أو عنوان"، أي أن الحب الذي يحلم به لا وجود له على أرض الواقع.
أما الحالة التي تفيض من أغنية "الدنيا ربيع" فهي الأكثر بهجة من كل ما سواها، مع ذلك ففي حوار لي زمان مع الراحل الجميل "صلاح جاهين" فاجأني بقوله إنه قد كتبها وهو في حالة اكتئاب شديدة لدرجة أنه بعد كتابتها لم يعد يذكر أي كلمة منها.
وأذكر أن تعليقي على هذا كان بتساؤل مني حول الإنسان حين يكون حزينا من الداخل مع ذلك يضحك وكأنه يقول للناس "أنا باضحك أهه". فنظر إلى البلياتشو المعلق أمامه على الجدار في مواجهة المكتب قائلا: "الحزن مش جدعنة".
كنت أذهب إليه في شقته بشارع جامعة الدول العربية، وحفظت بعد عدة لقاءات صحفية معه أنني بمجرد دخولي من باب الشقة سيصحبني إلى غرفة مكتبه الصغيرة التي يبتلع مساحتها مكتبه الكبير، الذي من الواضح أنه قد اختاره بهذا الحجم الهائل لزوم رسم الكاريكاتير على ورق بمقاسات كبيرة.
كانت الغرفة ناطقة بحالة صاحبها المنتجة للأعمال الفنية والأشعار، حيث أنها مزدحمة بالأوراق والكتب والمجلات، وكان يصلك أثناء جلوسك في الغرفة صوت العصافير تأتيك من شجرة مجاورة.
وأذكر حين قلت له أن العصافير سعيدة و"بتصوصو"، أنه قد علق قائلا: وربما تكون هذه "الصوصوة" خناقات بين عصفور وعصفورة، أو مطالبات لعصافير صغيرة من العصفورة الأم باستعجال الطعام أو بترتيب العش. ضحكنا وقتها معا دون أن نتوقف طويلا أمام التفسيرات المتفائلة وغير المتفائلة للأشياء التي نمر بها.
وإذا كان الصوت الذي كان يرافقنا في تلك الغرفة هو صوت العصافير، فإن الرائحة التي ارتبطت في ذاكرتي بالمكان هي رائحة النعناع التي تفوح من أكواب الشاي التي يقدمها لي بنفسه بترحيب وود يأسرني.
وقد رحل صلاح جاهين في عز الربيع في 21 أبريل، وكنت وقتها في مؤتمر بسويسرا وبكيته بكاء شديدا، فلم أكن محبة لأعماله فقط، إنما هو واحد من الشخصيات الأدبية القليلة الذين ازداد ارتباطي بهم عندما التقيته واقتربت من بساطته الحقيقية وتواضعه وتكوينته الفنية المعجون بها، والحالة الطفولية النقية التي تفيض بالبراءة التي منحها الله له.
في أحد لقاءاتي معه كانت ابنته "سامية" طفلة صغيرة وكعادة الأطفال تريد التسلل إلى المكان الذي يتواجد فيه الضيوف، وقد لاحظ الفنان الكبير صلاح جاهين وجودها بجانب باب الغرفة فقال كأنه يوجه الكلام لي بينما هو يتابعها بطرف عينه: أنا قلت لك إن سامية بنت لطيفة وبتسلم على الضيوف. وهي بمجرد أن تسمع هذه الكلمة تطير هاربة ونغرق نحن في الضحك.
وقد رحل الفنان العظيم وعاشت أعماله مثل "الدنيا ربيع"،"الليلة الكبيرة"، "الرباعيات". أشعار لا تدري هل الفرح فيها مجدول من الحزن، أم أن الحزن فيها مغزول بفرح. إنما يجمعها أنها تأسرنا بما تحويه من حُسن وحِس، وتطريز عجيب للأمل يزاحم تطفل اليأس، فهو القائل في رباعية له:
"يأسك وصبرك بين أيديك وانت حر
تيأس ما تيأس الحياة راح تمر
أنا دقت من دا ومن دا عجبي لقيت
الصبر مُر وبرضه اليأس ُمر"
وهو القائل في رباعية أخرى:
"حاسب من الأحزان وحاسب لها
حاسب على رقابيك من حبلها
راح تنتهي ولا بد راح تنتهي
مش انتهت أحزان من قبلها".