الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

أنا وسارتر.. و«المومس الفاضلة»

بوابة روز اليوسف

الحياة رحلة نسير في دروبها في زمن تقاس به أعمارنا، وهي الهبة التي منحها الله لنا، يستثمرها البعض فيربح حياة يقتفي أثرها كل من يجيء بعدهم فتعلموا الحياة وعلموها، ويخسرها من اكتفى بالأخذ منها دون عطاء، فهناك من أعطته الحياة، وهناك من أعطى الحياة.. ولكن الحياة مستمرة.

 

حقًا الحياة مستمرة.. ولكن كيف تستمر؟! في بداية رحلة الحياة وإصراري على النجاح آمنت وتأثرت بما يكتبه عاشق الصحافة، الكاتب والصحفي الكبير مصطفى أمين في زاويته اليومية "فكرة" يحث فيه على قيمة العزيمة والإصرار، ويُلزْم قراءه بالتمسك بها، فالذي يفتقد القدرة على الإصرار والعزيمة هو شخص خامل بلا هدف ولا طموح، ولا يمكن أن يحقق شيئًا مهما إلا عن طريق الصدفة بخلاف الشخص الذي بمقدوره التحلي بالإصرار وامتلاك عزيمة قوية، لأنه شخص يعرف ما يريد ويتحدى الصعاب ويتفوق عليها وحتى على نفسه، وعلى الأغلب يفوز بما يريد تحقيقه. وفي أحد أعمدته اليومية أكد ما يؤمن به بالرأي "قد تثبت لك الأيام أن ما ظننته قلاعًا من صخور إنما هي حصون من ورق منا من تصرعه الضربة الأولى، وآخرون تخلق منهم الضربة الأولى أبطالا".

 

تأثرت بكل ما كان يكتبه الأستاذ في عاموده الصحفي اليومي بما فيه أن الإنسان لا يحتاج لساعات طويلة من النوم فهو مضيعة للوقت، فإن ثلث العمر يضيع في النوم. وفي "فكرة" أخرى العلماء يعملون على اختراع بدائل للطعام بتناول حبات كوجبات للإفطار والغذاء والعشاء تغني عن قضاء ساعات طويلة على مائدة الطعام.

 

القراءة كانت مصدر متعتي، وعادة اكتسبتها من "حصة" القراءة بمدرسة مصر الجديدة الثانوية، فقد كانت "الحصة" السادسة والسابعة للقراءة بمكتبة المدرسة، من أهم الحصص الموجودة في الجدول المدرسي.

 

التهمت كتب سلامة موسى، توفيق الحكيم، المازني، طه حسين، المنفلوطي وقصص محمد عبد الحليم عبد الله وأشعار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم. أحببت الشعر فكتبته واحتضنني ا. محمد خليفة التونسي مدرس اللغة العربية وأحد تلاميذ الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، فلم يبخل على بوقته أو جهده بل كان يدعوني إلى منزله صباح كل يوم جمعة لمراجعة وتصحيح ما كتبت قبل أن يذهب إلى ندوة العقاد الأسبوعية، عطاء بلا حدود أو مقابل من أستاذ لتلميذه.

 

روايتي اليوم أشبه بقصص ألف ليلة وليلة الخيالية عن عصر كان فيه رجال التعليم يحملون على عاتقهم تعليم النشء، إلى جانب القراءة والكتابة، مبادئ الأخلاق والأدب والاحترام، فكانوا قدوة في السلوك والحرص على الاعتناء بمظهرهم. كنا نهابهم في المدرسة ونغير المسار إذا صادفناهم في الطريق خوفا من السؤال عن أسباب التسكع في الطرقات بدلا من الانكباب على الحفظ وإنجاز الواجبات المدرسية، فقد حملوا مشعل التنوير وشعار "العلم نور والجهل عار". كانوا رجال تربية وعلم ساهموا في تكوين أجيال.

 

 

لم أكتفِ بقراءات المكتبة المدرسية، بل اشتركت في مكتبة مصر الجديدة المواجهة لمدرستي في تقاطع شارع العروبة مع شارع بيروت كمركز يهدف لنشر الثقافة العامة من خلال مجموعة من الأنشطة والخدمات، وبها غرف للاطلاع والاستعارة، كان اسمها مكتبة الأميرة فريال التي أسستها ورعتها بعد أن وضع حجر أساسها الملك فاروق عام 1945. وبمرور الأيام ولعوامل الزمن أجريت عمليات إعادة الروح لهذا الصرح الثقافي العريق بالتجديد والتطوير عام 1987 ليصبح أحد أبرز المنارات الثقافية. وهذا العام يمر 75 عامًا على إنشائها.

 

أصبحت أقتني الكتب من مصروفي بعد التجربة الرائعة التي قادها د. عبد القادر حاتم منذ إنشاء هيئة الاستعلامات وترجمة مئات الكتب وتقديمها بقروش معدودات للمتعطشين للمعرفة حتى إن المطابع كانت تخرج لنا كتابًا كل ساعة.

 

وفي أهم فترات النهضة الثقافية عندما كان د. ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة، فقد أسس المكتبة الثقافية والتي كانت النبتة الأساسية لمشروع مكتبة الأسرة، حيث تتاح الكتب بأثمان زهيدة لتصبح في متناول الجميع، ومع توفر إصدارات كبار الكتاب المترجمة بأسعار تتناسب مع ميزانيتي البسيطة بشراء كتاب كل أسبوع، بهرتني الأسماء الكبيرة للأدباء والكتاب العالميين، وكان اسم جان بول سارتر في مقدمة الأسماء اللامعة في وقتها وارتبط اسمه بالكاتبة النسائية والفيلسوفة سيمون دي بوفوار المنادية بالمساواة بين الرجل والمرأة، وتحولت صداقتهما لعلاقة رومانسية دون أي التزام، وهو صاحب المقولة الشهيرة "لقد عرفنا كل شيء باستثناء كيفية العيش".

 

سارتر كاتب وفيلسوف مثير للجدل، فهو رائد الوجودية الذي حصل على جائزة نوبل في الآداب لكنه رفض الجائزة ليصبح بذلك أول حائز على جائزة نوبل يقوم بذلك. اقتنيت أول كتاب لجان بول سارتر فرحًا به دون أن اعرف مضمونه ومحتواه أو حتى معني العنوان الذي يحمله غلافه، فيكفي أني أقتني كتابا للفيلسوف الكبير لأصبح واحدًا من قرائه. هرولت عائدًا لبيتي مُنتشيًا لأطلع والدي على ما اقتنيت، وبفخر واعتزاز قدمت الكتاب لوالدي الذي اعتري وجهه مزيج من الدهشة وشبه الصدمة لم تصل للغضب أو الانفعال، وفي هدوء سألني عن عنوان الكتاب ومضمونه ومع براءة إجابتي وجهلي ارتاحت أساريره وتركني لأكتشف بنفسي، وفي شغف قرأت الكتاب لمعرفة سر تساؤلات وقلق الوالد، فالكتاب يحمل عنوان "المومس الفاضلة". الكتاب مسرحية من فصل واحد ولوحتين لا يقدم فيها سارتر أدبًا إباحيًا ولكنه يثبت لمن اتهم وجوديته بإنه ليس ضد الأخلاق بل الوجودية مذهب فلسفي، والمذهب الفلسفي لا يمكن أبدًا أن يكون إباحيًا أو لا أخلاقيًا وتبقى له وجهة نظره الخاصة. المسرحية تتناول الشخصية الإنسانية من ناحية الأخلاق، واختار سارتر شخصية البغي لأن البغاء هو أسوأ ما يمكن أن يبتلي به المجتمع أو تمتهنه امرأة. تحكي المسرحية عن محاولة عائلة أمريكية تخليص أولادهم من عقوبة قتلهم لرجل زنجي عن طريق إقناع عاهرة بيضاء بالشهادة الزور لاتهام رجلا زنجيا آخر بالقتل.

 

هي مسرحية ضد العنصرية وامرأة في نفسها بقية من حب الخير والحق بعد أن التهمت الحياة الأمريكية سائرها.

 

وقرأت لكاتبة فرنسية تراجم لقصصها الرومانسية "المستنقع المسحور"، "قارعو الناقوس"، "إنديانا"، "أحاديث جدتي" و"فاديت الصغيرة". إنها الروائية الفرنسية "جورج صاند" وهو اسم مستعار لاسمها الحقيقي أمانتين لوسيل أورور دوبين وهي كاتبة وصحفية وصاحبة صالون أدبي في باريس وكاتبة مسرحية وروائية وملحنة في زمن حساس كانت المرأة تصارع القوي المجتمعية مطالبة بدورها وثائرة لحقوقها. جورج صاند أثارت دهشة معاصريها عندما ارتدت أزياء الرجال ودخنت السيجار، وعاشت أشهر قصة حب مع الموسيقي فريدريك شوبان.

 

قرأت لها مقطعا من أقوالها، حملته معي طوال سنين العمر وأصبح عقيدة أهتدي وألتزم بها في حياتي العملية:

 

{إذ لم أجد طريقي في الأرض المعبدة، فسأقتحم القمم الصخرية الشاهقة دون تذمر لأني اعلم أن في كل جهد الجزاء الكافي عنه، وأن الآفاق الواسعة تنتظرني في آخر الطريق}. هذه المقولة ألهمتني كثيرا في بداية حياتي العملية وأكسبتني صلابة وأعطتني طاقة ودفعة من التحفيز والحماس وقوة الإيمان بالنفس، ودفعتني لتوسيع أفقي وأدراك كم الأشياء المدهشة التي يمكن أن أقوم بها في الحياة واتخاذي بعض الإجراءات التي أثرت جذريا على حياتي، وعدم التخلي عن نفسي مهما كانت الظروف، وعدم السماح لأي أزمة أن تدمر أحلامي.                                 

 

 

دعنا نكمل بقية الرحلة في أسبوع مقبل.

 

مودي حكيم      

 

تم نسخ الرابط