نجيب محفوظ في مقام الحيرة
القصص الأولى لنجيب محفوظ، هي التي حملت أسرار كتاباته، ومنابع الرؤية الصافية، التي استلهمها، وفي جذورها تلك تكمن بذور التكوين، التي اكتنزت بأحلامه، واستشرافه لعالمه الإبداعي الخاص.
القصص الأولى التي اعتبرها النقاد مرحلة تاريخية، فلم يتوقفوا عندها كثيرًا، وساعدهم على ذلك موقف نجيب محفوظ من كتاباته الأولى فقد مزق بعضها، ولم يُنشر منها سوى مجموعته القصصية الأولى "همس الجنون"، والتي احتار النقاد هل نجيب محفوظ هو الذي اختار ما يُطبع منها، أم أنه عهد بذلك إلى عبد الحميد جودة السحّار؟، فيذكر جمال الغيطانى في كتابه "نجيب محفوظ يعترف لي"، أن السحّار هو الذي أّصَّر وهو الذي اختار، وهو الذي طبع.
وأن تاريخ هذه القصص يعود إلى عام 1938، لكنها طُبعت بعد صدور رواية محفوظ " زقاق المدق "، فلم يكن متحمسًا لإصدار قصصه الأولى، بل إن موضوعاتها هي من روايات له، فقد كانت الصحف في ذلك الوقت تنشر القصص بغزارة، بينما كان نشر الروايات أمرًا صعبًا، ولذا كتب محفوظ القصة القصيرة، لينشر ما كتب حسب ما ذكره محفوظ للغيطاني.
لكن الباحث المدقق، يكتشف أن محفوظ كان مؤمنًا بفن القصة القصيرة، بل هو الذي قال عنها "هي شعر الدنيا الحديثة"، وهي سيدة فنون الآداب دون منازع لثلاثة قرون خلت من أزهى عمر البشرية، وقد كتب نجيب محفوظ ذلك في مقالة له بعنوان "القصة عند العقاد"، الذي نشر وقتها كتابه "في بيتي".

وقال فيه "إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول، الذي يعطيه بيت كهذا البيت" وتلفتت عيني فمذ بعدت / عني الطلول تلفت القلب".
فكيف نفسر كيف يمزق محفوظ بعض قصصه؟، وإذا كان قد أرادها فقط كوسيلة للنشر كما قال للغيطانى؟، فمن أين له هذا الإيمان العميق بها، بل لقد كان عاشقا لها، وإلا ما طالعنا بعد ذلك بقصصه القصيرة في "الحب تحت المطر"، وغيرها.
كيف مزقها؟ وهو القائل: "إن عصر العلم الذي نعيش فيه يحتاج حتما لفن جديد يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق، وحنينه القديم إلى الخيال، وبذلك تكون القصة شعر الدنيا الحديثة، فضلًا عن مرونتها واتساعها لجميع الأغراض، مما يجعلها في النهاية أبرع فنون الأدب التي أوجدها خيال الإنسان المبدع في جميع العصور”.
وقد أورد على شلش في كتابه "نجيب محفوظ – الطريق والصدى"، مقاطع من مقالة محفوظ في الرد على العقاد، بل ورفض محفوظ للمقياس الذي اعتمده العقاد في ترتيب الآداب، وهو مقياس الأداة بالمقياس إلى المحصول.
إذن فنحن أمام تناقض لا يمكن تفسيره في موقف نجيب محفوظ من قصصه الأولى، إلا لو عدنا إلى هذه القصص نفسها لنكتشف السر، وسبب حيرته بين عشقه لفن القصة وكتابته لها بل ونشره مجموعته "همس الجنون"، بعد صدور روايته "زقاق المدق"، بل وصدورها بتاريخ الزمن الذي كتبها فيه عام 1938، ثم ما قيل عن تمزيقه لبعضها حسب ما ذكره عبد المحسن طه بدر في كتابه "الرؤية والأداة – نجيب محفوظ " فيقول أن أديب نوبل قد كتب في بداياته عددًا كبيرًا من القصص القصيرة مزق منها خمسين ، ونشرت الصحف نحو ثمانين ، وأن ما نُشر في مجموعته القصصية الأولى "همس الجنون" ثلاثون قصة، وقد صدرت عام 1947، وليس عام 1938، لكن التاريخ الأخير هو الزمن الحقيقي لكتابتها.
حكمة الحموي
وبين فكرة تمزيق محفوظ لبعض قصصه، وعشقه لفن القصة القصيرة نقف على شواطئ الحيرة التي لا تجلوها لنا، إلا هذه القصص نفسها، وتعد قصته "حكمة الحموي" مصباحا هاديا، نجتلى به موقف نجيب محفوظ في مقام الحيرة، فهو بنفسه قد صور صراعه هذا من خلال بطله كاتب القصة "فاضل الحموي"، وحواره مع صديقه الشاعر محمد الحارث، وهي القصة التي نشرها محفوظ على صفحات "المجلة الجديدة الأسبوعية"، في 18 مارس 1936، وهي القصة التي يمكنني أن أزعم أن بطلها هو نجيب محفوظ نفسه، ويكشف فيها عن رؤيته للأدب ماهيته، وكيفية الوصول إلى جوهره، قربه أو بعده عن الحقيقة وأوهام الخيال، بل إن فاضل الحموي يعبر عن هذه الحيرة الإبداعية، فيقول لصديقه الشاعر في القصة: "كنت أظن يا صديقي أن ما كتبت من نحو عشرين عامًا ينفع أن يكون مقدمة جميلة لعملي الفني الذي أحلم به لكن وأسفاه أرى الآن أن أهمل هذا الأثر الذي خلفته حياة الشباب، لأنه ما عاد يصلح في نظري لأن أضمنه في مؤلف أدبي أزعم له الكمال".

ونرى هذه الحيرة تلازم محفوظ طوال حياته الأدبية، فنجد أصداء لهذه الحيرة في قصة نشرها في كتابه "أحلام فترة النقاهة"، الصادر عن دار الشروق 2004، وهي تعكس مقام محفوظ في مقام الحيرة، وتشككه في وصوله إلى ذروة الكمال، وهذا في رأيي ما صنع عبقرية نجيب محفوظ، موقف الشك الفلسفي، والتفكر في حقيقة الإنسان، والفن في تعبيره عن الموجودات، وعن طبيعة الإنسان الطامحة لتحقيق جنته على الأرض، ففي أحلامه في فترة النقاهة يقول: "تأبطت الجميلة الشابة ذراعي، ووقفنا أمام بياع الكتب الذي يفرش الأرض بكتبه، ورأيت كتبي التي تشغل مساحة كبيرة، وتناولت كتابا، وقَّلبت غلافه ففوجئت بأني لم أجد سوى ورق أبيض فتناولت كتابًا آخر، وهكذا جميع الكتب، لم يبق منها شيء، واسترقت النظر إلى فتاتي فرأيتها تنظر إلى برثاء".
وأرى أن هذا ليس حلمًا من أحلام فترة النقاهة، وإنما رؤية محفوظ لحيرته بين يديه، يساءل نفسه دائما عن ماهية الإبداع، وكيف يصل بإبداعه إلى الكمال، وأن التحدي دائما هو ذلك الورق الأبيض الذي نملأه بالكلمات فلا يمتلئ، هذا البحر العميق الذي تجرى إليه الأنهار عطشى، وهو لا يمتلئ، إن هذا الطموح والقلق المشروع هو الذي جعل نجيب محفوظ هو بطله فاضل الحموي، توحد معه منذ بداياته الأولى فلا يسعنا سوى أن ننصت إلى بطله، وفي الوقت ذاته ننصت لمحفوظ نفسه، وما يهجس به، ويحدسه، ويفكر به، وفي قصة "حكمة الحموي"، يعبر محفوظ عن كل هذا فيقول في حوار بين فاضل القاص، الذي يعكف على تأمل أعماله وتمحيصها وتدقيقها، ولا يكاد يقبل على نشرها، بل يتركها لكى تختمر وتترسخ.
وصديقه الشاعر محمد الحارث الذي يعيش بإحساسه الوقتي، ويكتب أشعاره بنت لحظتها فيقول لفاضل: "لعلك بلغت قمة الحكمة، وتكشفت لك خفايا الحقيقة بعد عناء هذا العمر الطويل في البحث والاطلاع، وما عليك الآن إلا أن تنظم جواهر أفكارك، وتعرضها على الناس، فحرام عليك أن تبخس نفسك نصيبها، وأن تهضم حقوقها فما قولك؟ ". فابتسم فاضل ابتسامة هادئة ساخرة، وقال "ينقصني أن أومن بأن ما كتبت حكمة تستحق الذيوع، والحفظ من الاندثار لكي أنشرها على الناس".
فدهش الحارث وقال متسائلا: "ولكن لم يبق في العمر ما لعله يصحح فلسفتك، ويُنتج الجمال الذي تروم"، فيجيب فاضل الحموي: "وهذا ما يزيدني أسى وحزنا على ما ضاع هباء، وآمال تكشف عن أوهام. ويفصح فاضل الحموي عن سر حيرته فيقول: "سلكت ما أعلم، ويعلم الناس أنه السبيل إليها ثم تأملت نفسى لأرى أي حد بلغت فألفيتني على بعد لم يتغير منها، ومثله لم يبعد عن الجهل فكأنما كنت أدور في محيط هي مركزه الثابت، فلو أننى تشككت في الحقيقة ذاتها، لما كنت متشائما ولا مبالغا، وقد رغبت في ذلك الخير وتوخيت سبيله ، وآمنت به، ولكنى أشك في أنه ليس أكثر من وهم كالحب المجنون سواء بسواء ، فالناس مختلفون في سلوكهم ومثلهم العليا، وهم على اختلافهم هذا لا يهتدون بهدى ما به يؤمنون ، وانى الآن أتأمل فلا أظفر بالإيمان، ولا أجد في قلبي وا أسفاه إلا السخرية والضحك من كل شيء، كأنما داخلني خبل أو مسنى جنون "
وهنا صفق الحارث بيديه الهزيلتين وصاح "أحسنت، وانتهيت إلى ما بدأت به ووجدته ممتعا لذيذا فعليك بهذا، واكتب ساخرا مما كتبت، وأنت به مؤمن، واجمعه فيكون لديك أدب ثمين ممتع لا ريب فيه".
وهذا الإيمان بالإنسان هو الفكرة الأساسية التي دار من حولها أدب محفوظ، وهو اليقين الذي تمسك به بطله فاضل الحموي فيقول لصديقه الحارث الشاعر: "جوهر الحياة وأسمى ما فيها هو العقل، والفكر هو الذي ينفذ إلى حقائق الأشياء، ويبدع أسمى المعاني، وهو أساس التدبير العملي في حياة الإنسان العملية، فليهبني الله من عنده قوة بصيرة ونفاذ رأي لاستجلى حقائق الكون، وخفايا النفس، وقواعد السلوك.

وهذا هو الجدير بالتسطير ثم النشر، وهو ما يعزيني عما ضيعت من عمر وعمل، ولا ضياع أو خسران ما دمنا نتعلم الحكمة، ونزداد صبرا لسبرغور العرفان والتجارب".
وهذا الطرح هو ما يؤمن به نجيب محفوظ نفسه حين يقول: “عندما اخترت الأدب كان اختياري حتميا، كان اختيار حياة، ولم يكن ثمة تردد، وكان لا بد من الاستمرار والمثابرة أيًا كانت النتائج، وقد أقدمت على العمل الأدبي، وآمالي فيه ليست كبيرة مثل عادل كامل لذلك لم تكن الخيبة حادة بالنسبة إلى، كانت علاقتي بالفن علاقة حب، وحياة أشبه بالتصوف، وإذا أردت أن تضيف إلى هذين السببين.
وسبب ثالث، هو أننى كنت تلميذًا مجتهدًا، وأنك تستطيع أن تنسبني للعمال الذين بنوا الأهرام، وليس للمهندسين الذين اجتنوا الثمار”.
وهي الشهادة التي أدلى بها محفوظ لصبري حافظ عن مصادر تجربته الإبداعية ومقوماتها، ونشرها بمجلة الآداب عام 1973، وقد أوردها عبد المحسن طه بدر في كتابه "الرؤية والأداة".
فما موقف محفوظ من قصصه الأولى؟، أراه هو موقف فاضل الحموي من كتاباته الأولى فيقول الحموي: "استأنف حياته الأدبية بالاطلاع على تحف الأدب الغربي فاتسعت آفاقه، وصقل ذوقه، وأُرهفت بداهته، وعاودته ذكرى تلك الأوراق القديمة التي تحفظ له أبهج ما زان حياة الشباب المنطوي فلج به الشوق ونشرها بين يديه بعد عشرين عاما، وجرى بصره بين سطورها فأيقظت في قلبه حلو الذكريات واهتزت نفسه بعاطفة حنين وسرور حزين تخفق به قلوبنا كلما لاحت لها ذكرى من ذكريات العمر المنقض، وبعد أن ارتوى منها عقله وغلبه تذكر مثله الأعلى أن يجعل من العمر كله موضوعا فنيا رائعا كاملا يصحح بعضه البعض الآخر، ويسمو آخره بأوله، وطرح على نفسه السؤال ، هل يُتم ما بدأه؟، لكنه غير راض عن مؤلفه الأول رغم ما يحفظه له من عطف وود ، ولعله عطف عليه كما نعطف نحن على عبث طفولتنا، وأهوائنا الخرقاء، بها من غير أن يعدو عطفنا إلى الإعجاب أو الإيمان، ورأى أن العمل المجيد الكامل يجب أن لا يحوى أوهام الحب وجنون الشهوة وأُلهيات المرأة التي تثير فيه الابتسام على سذاجته حين ذاك وجنون أخيلته".
صراع لا يتصوره إلا من عاش فيه
وأرى أن نجيب محفوظ عاش دائمًَا في مقام الحيرة، فهو قد تردد طويلا قبل أن يهجر فكرة الحصول على ماجستير في الفلسفة، تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق، في موضوع "مفهوم الجمال في الفلسفة الإسلامية"، وحسم أمره بعد كتابات ومقالات عديدة في هذا المجال نشرها في المجلات الأدبية في ثلاثينيات القرن الماضي، فيقول محفوظ عن حيرته تلك: "وجدت نفسي في صراع بينهما بين الفلسفة والأدب، صراع لا يمكن تصوره إلا لمن عاش فيه، وكان عليّ أن أقرر شيئًا أو أجن، كانت في ذهني تظاهرة من أبطال "أهل الكهف"، الذين يصورهم توفيق الحكيم، والبوسطجي الذي رسمه يحي حقي، أو الفلاح الصغير الذي لا يعرف من الدنيا، أبعد من حدود عيدان القصب المنتصبة على حافة الترعة.
في رواية "الأيام" لـ”طه حسين”، وأشخاص كثيرين من أبطال قصص محمود تيمور، كلهم كانوا يسيرون في مظاهرة واحدة، وقررت أن أهجر الفلسفة، وأسير معهم، وقد سجل هذا الاعتراف يوسف الشارونى في كتابه "رحلة عمر مع نجيب محفوظ".
إذن فمقام الحيرة موقف أصيل في وجدان نجيب محفوظ، هو يكتب ويتأمل ويفكر ثم يتردد طويلا حتى يستقر على شاطئ، وفي كل مرة لا يمكن لا أحد أن يتصور الصراع إلا من عاش فيه.

وهو ما يظهر لنا جليًا إذا طالعنا قصصه الأولى، التي تكشف لنا مواطن هذا الصراع وأسبابه العميقة، تلك القصص التي أشار إليها النقاد والدارسون، فتبعها الحائرون في أدب نجيب محفوظ، وعلى درب هذه الحيرة سرت، وأصدرت كتابي "الحياة في مقام الحيرة – قراءة في أعمال نجيب محفوظ المجهولة"، بعد أن نشرت فصوله منجمة في مقالات على صفحات مجلة “صباح الخير”.
ويعد كتاب محمود على الذي جمع فيه قصص نجيب محفوظ المجهولة وصدر بعنوان "قصص نجيب محفوظ التي لم تُنشر"، وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2016، خطوة توثيقية مهمة لقصص نجيب محفوظ، وقد أورد فيه أربعين قصة لمحفوظ لم تُنشر في كتب، وإنما نُشرت على صفحات المجلات الأدبية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وواحدة منها نُشرت عام 1950 وهي قصة بعنوان "علي البلاج"، وهي من الأدب التفاعلي، أو الأدب المشترك الذي تثيره فكرة فيناقشها جماليا قاص آخر، فينقلها نقلة درامية، ويترك تسلسل أحداثها وختامها لمبدعيها كل على حسب رؤيته ومنهجه القصصي والجمالي، بدأها الشاعر صالح جودت وتبعه نجيب محفوظ، وختمها عبد الحميد جودة السحار.
وهنا ينبغي الإشارة إلى دراسات رائدة أشارت إلى هذه القصص الأولى، فأصبحت مثل مصابيح هادية لنكتشف كنوز نجيب محفوظ، ومنها دراسة عبد المحسن طه بدر في كتابه " الرؤية والأداة – نجيب محفوظ "، وحمدي السكوت في دراسته "نجيب محفوظ – ببلوجرافيا تجريبية وسيرة حياة ومدخل نقدي".
ومن المهم أن نقول، إن العودة لقصص نجيب محفوظ الأولى ودراستها ضرورة حيوية لكشف المزيد من أسرار الإبداع عنده، وإن كل قراءة جديدة لقصصه تلك ستكشف كيف تكونت أعماله، وتوهجت بذورها وجذورها على مهل، وهي وثائق أدبية تؤرخ لكتابات نجيب محفوظ وفنه بل هي وثائق لدراسة تاريخ فن القصة، الذي حفظته لنا المجلات الأدبية ثروة معرفية كبيرة، من رؤى وإبداعات كبار كتابنا، فأسهمت في التأريخ للأدب والأدباء بل ولفن القصة نفسه.



