عاجل
الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
خيري شلبي وعناقيد النور

خيري شلبي وعناقيد النور

 كان يتأمل العالم بنظرة ثاقبة، كنت تراه بابتسامته الهادئة، ووجهه المستدير الذي يشبه رغيف الخبز الصابح، وملامحه التي امتلأت بعشق الأدب والفن والثقافة فتحسب أنه هو نفسه الكاتب الفرعونى الجالس فى أحسن حالاته، وأوج إبداعه عندما كان يضحك، تجلجل ضحكته مختزنة قدرا كبيرا من الدمع، دمع الفرح لأنه الذي عبَّر فى كتاباته عن المهمشين والبسطاء، خيرى شلبى  (31 يناير 1938  -  9 سبتمبر 2011)، هو الذي تجلت ملامح القرية المصرية فى جميع كتاباته، فهى معطرة بنعناع الجناين، ومؤتلقة فى «صهاريج اللؤلؤ»، بدأ عالمه الروائى برواية تحمل طابع الشعر، غنية بالموسيقى، فى روايته «السنيورة» بدا شاعرا متمرسا بقصيدته، ففيها ثلاث قصص تؤرخ لهذه البداية الشعرية التي جعلته فيما بعد حافظا لأشعار فؤاد حداد، يلقيها بذاكرة حافظة، وإلقاء وارف بصوته العميق.



 

 

 

كما كان رئيسا لتحرير مجلة الشعر، وكان يختار بعناية ما يُنشر فيها من أشعار. أما قصصه الشعرية التي ازدانت بها روايته «السنيورة» فكانت تنبئ برهافة، وعشق لموسيقى القصيدة العربية الحديثة، ففى قصته  «أغنية للقمر الغائب» يقول: «انغلقت عائشة للحظة، بعثت بنظرتها شاردة فى الجو، عانقت القمر الطالع، النائم كحمامة، فى أعلى نخيل متباعد، يا جريد النخل يا عالى، ارفق بالقمر المتخفى فى سعفك، احتضنه ولكن لا تخفيه، هاهو يتمرد فى صدرك، ويحاول أن يفلت من بين ذراعيك».

صوت الحكمة

وأنصت لإيقاع قصته تلك، وهو يتواتر كما لو كان قصيدة، وهو يعجن خلاصة أقماح الشعر، بسلافة ماء الحكمة، فيبدو بطله صوفيا ينشد فى أصفى مقامات الحال: «من كان فقيرا فى الدنيا عوضه الله بآخرته، يعنى أنك تعطى لعلىّ دنيا كيما تنزع آخرته، وعلى كل الأحوال فأنا أوشكت على لقياك، فارزق عائشة يارب، بعريس ابن حلال، هى طبعا بنت مسكينة، لم يتهاد لمحطتها أى قطار, وتثاءب عبد الفتاح، وتكور مرتكنا للحائط، ويداه تلفان سيجارة، والموت خرافة, كانت عائشة تغنى أغنية القمر المتخفى فى سعف النخل, وتظهر أيضا هذه النزعة الشعرية فى قصته «عندما يورق الموت»، و«ليالى عائشة».

وقد أفاد خيرى شلبى من هذه التجربة التي لم يكن يتعمدها فارتبطت بسرده صانعة جمالا خاصا لمظاهر الحياة فى القرية، بل حاول أن يقدم تفسيرا فنيا مغايرا لما نعرفه عن حبسة القمر، أو القمر المخنوق الذي يخرج أطفال القرى وبناتها ونساؤها ليغنوا له ليكتمل  وهم يدقون على الصحون المعدنية،  كنا نعرفها  ونغنيها فى طفولتنا فنقول: «يا بنات الحور، ده القمر مخنوق»، وهو استعانة ببنات الحور فى فك حبسة القمر، والدعاء باكتماله، لكن خيرى شلبى فى روايته «موال فى الزمان القديم» يقول: «يلا يا بنات الحور سيبوا القمر يدور، ويلا يا بنات الجنة سيبوا القمر يتهنى». ويضيف: «وهم يعرفون أن من لف حبل المشنقة حول القمر هن بنات الحور» مقدما رؤية جديدة للأغنية. وهى أن بنات الحور هن سبب حبسة القمر،  لا  خلاصه ، رؤية مغايرة لهذا الغناء القروى الجميل. كان كاتبنا العطر المعتق من نعناع الجناين، الحافظ لتراث القرية المصرية، وعاداتها الشعبية، والأمين على مخازن هذه الذاكرة الشعبية سواء فى كتاباته الروائية، أو دراساته وكتاباته فى العديد من حقول المعرفة، وتجلى دوره الفاعل فى الحياة الثقافية المصرية عندما تولى رئاسة تحرير سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.

عنقود النور الأول

كان خيرى شلبى مسكونا بالإبداع، فى داخله عنقود مبهج من النور، يتواشج ويتصل، ويروح ويجىء كقنديل مضىء، كثريا معلقة من بللور، تبهرنا أضواؤها ونحن نرى أفكاره الروائية وهى تتبدى أمامنا من أعماله الأولى حتى أعماله الأخيرة، ففى روايته الباكرة «السنيورة»، نرى بذور روايته «بغلة العرش»، يتتبع الفكرة التي جعلت من طلب السنيورة لسائس وسيم قوى  لرعاية بغلة التفتيش حجة السنيورة فى امتصاص وسامة وفحولة شباب القرية تحت إغراء أنهم بذلك يحصلون على مال ونفوذ خاص فضلا عن التمتع بجمال السنيورة الباهر، رغم أن المحظوظ بنوال ذلك سيلقى حتفه على الفور، فتركله البغلة بسيقانها ركلة مميتة تصيبه فى صميم فحولته، وهو يعود لمعالجة هذه الفكرة فى روايته «بغلة العرش» التي أصبحت رمزا لأحلام بالارتواء والغنى لا تتحقق، ويؤكد كاتبنا أن الأسطورة من الأصول الغنية الثابتة للحكى والحلم فى القرية المصرية فتراه يقول: «فى عام 1963 تيقظت فى وجدانى أسطورة «بغلة العرش» التي كثيرا ما كانت أمى تحكيها لى فى الليل كلما سألتها لماذا نحن فقراء مع أننا من أصل عريق؟ ولماذا بعض الناس أثرياء مع أنهم من أصل وضيع؟ وكانت هذه الأسطورة تفتن خيالى الطفل، وظلت تفتننى وأنا كبير، فإذا بى أكتبها على شكل قصة قصيرة بعنوان «ليالى عائشة»، فى رواية «السنيورة»، على أننى فى أواسط السبعينيات فوجئت بالأسطورة تغزو وجدانى من جديد بإلحاح قوى.

فإذا تتبعنا عناقيد النور عند كاتبنا، وجدنا هذا التميز الكبير فى رسم البورتريه بالكلمات، وقد تأثر فى ذلك بعبد العزيز البشرى، وخاصة فى كتابه «المرآة» أول من أتقن هذا الفن، وكان من أهم وأشهر الأبواب فى الصحافة المصرية بيد أن التصوير عند البشرى كان كاريكاتيريا، وعند خيرى شلبى يعتمد على الجمالية الإنسانية المميزة للشخصية المصرية، كما يقول حاتم حافظ فى مقدمة كتاب «عناقيد النور»، وقد أرسل الفنان التشكيلى حسين بيكار رسالة لخيرى شلبى يقول فيها :

«لأنك صححت لى مفهوما خاطئا كان غائرا فى أعماقى حتى النخاع، وهو أن فن البورتريه لا يتحقق إلا رسما أو نحتا، ولكنك نسفت لى هذا المعتقد الخاطئ فى لحظة عندما رأيتك ترسم بالكلمة وكأنك ممسك بريشتك البارعة تنقل أدق التفاصيل التشريحية والنفسية، وتغوص بها فى أعمق الأعماق لتبرز أدق المشاعر التي يحتكرها الباطن، ويعتبرها من ممتلكاته الخاصة»، لقد كتب خيرى شلبى البورتريه مدفوعا باستكشاف طاقة المصرية النهرنيلية فى الشخصية، التي تشكل جمالية الشخصية المصرية كما يقول حاتم حافظ فى مقالته «مدخل إلى جماليات بورتريه خيرى شلبى».

فإلى صاحب عناقيد النور، إلى خيرى شلبى أهدى هذا البورتريه الذي رسمته بالكلمات، فى ذكراه التاسعة، فلقد قدم لنا هذا الكاتب الفنان أجمل البورتريهات ومن حقه علينا الآن أن نرسم له أجمل بورتريه، مزينا بباقة ورد، معطرا بعبير الأرض، بذوب سكر وحلاوة نهر النيل. 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز