
حكاية سلطنة صُنغي الإسلامية.. أعظم ممالك غرب إفريقيا

د. إسماعيل حامد
ظهرت تلك "سلطنةُ صنغي" Songhai(777-1000هـ) على مسرح الأحداث التاريخية في منطقة "غرب إفريقيا" WestAfrica، بعد أن سقطت "مملكة مالي" (596-874هـ)، وهي المملكة الإفريقية الأقدم منها، وتعتبر "مملكة مالي" الدولة الثانية ضمن ممالك غرب إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وكانت قد تأسست بعد "مملكة غانة" الإسلامية (التي اشتهرت بأرض الذهب) والتي ـتأسست بدورها قبل القرن الخامس الميلادي، ومعلوم أن تلك الممالك الإفريقية الثلاث كانت قد اشتهرت بممالك الذهب، لأن ملوكها سيطروا على مناجم الذهب في غرب إفريقيا، وكذلك تحكموا في تجارته عبر طرق ومسالك الصحراء الكبرى. وقد تحولت سلطنة صنغي إلى الإسلام حوالي القرن الخامس الهجري/ القرن الحادي عشر الميلادي.
خريطة غرب إفريقيا حيث ظهر ممالك غانة، ومالي، وصنغي
ويُنسب تأسيس "سلطنة صنغي" لشعب إفريقي قديم اسمه شعب الصنغاي (السنغاي)، وهو من أهم شعوب غرب إفريقيا، مثل شعب: الماندنجو (الماندي)، والمالنكي، وشعب السوننكي، وشعب التكرورو (التوكولور)، وشعب الصوصو، وشعب البمبارا، وشعب الفولاني (الفلاتة)، وشعب الهوسا (الحوصا في نيجيريا)، وشعب الولوف (السنغال).. الخ.
ويُكتب اسم "سلطنة صُنغي" بعدة طرق، وأشكال لغوية فيما يشبه اللهجات المحلية، ولعل من أبرزها: "سلطنة صُنغاي"، وكذلك "سُنغي"، أو سُنغاي، أو "سغي". ولا يعني ذلك أن "سلطنة صُنغي" وهي التي ظهرت مباشرةً بعد سقوط "مملكة مالي"، بل إن "سلطنة صنغي" كانت تأسست خلال وجودها، لكن برز دورها في غرب إفريقيا بشكلٍ كبير بعد انهيار "مملكة مالي". وينقسم تاريخُ "سلطنة صُنغي" لحقبتين رئيسيتين، الحقبة الأولى: وهي التي تُعرف باسم: "عصر آل سُني" (777-899هـ)، وكان أهم ملوك تلك الفترة السلطان "سُني علي"Sunni Ali ، ويُنطق اسمه أيضا بحسب بعض الروايات التاريخية: "سُوني علي"، وكذلك: "سن علي".
أما "الحقبة الثانية" من تاريخ "سلطنة صنغي": فإنها كانت تُعرف بـ"عصر الأساكي"، وذلك نسبةً للقب "أسكيا" وهو اللقب الذي كان يحمله ملوك هذه الفترة، وكان مؤسس "الحقبة الثانية" من تاريخ "سلطنة صُنغي": هو السلطان "أسكيا محمد" Askia Muhammed (899-935هـ)، وهو المعروف أيضا باسم: "أسكي الحاج محمد"، أو "أسكيا الكبير"، وكانت عاصمة "سلطنة صُنغي" مدينة "جاو" Gao، وهي من أشهر مدن غرب إفريقيا، وتقع بالقرب من ضفاف نهر النيجر، بل تعتبر من أقدم المدن عراقة في مناطق غرب إفريقيا على غرار المدن الكبرى الأخرى في غرب إفريقيا، مثل: تمبكتو (تنبكت) وجني، وكانو.. الخ.
السلطان سُني علي:
يعتبر السلطان "سُني علي"، وهو الذي حكم هذه البلاد خلال القرن التاسع الهجري/ القرن الخامس عشر الميلادي حيث انتهى حكمه في سنة 898هـ، من أبرز حكام الفترة الأولى من تاريخ صنغي، وكان حاكما قويا، وقائدا عسكريا فذا، تمكن من توسيع تخوم دولته حتى شملت أكثر مناطق غرب إفريقيا. وكانت إشكالية "سني علي" أنه لم يكن مقبلًا على الإسلام، بمعنى أنه لم يرفض الإسلام صراحة، بل كان يؤدي بعض الفرائض، ولكنه كان يميل أكثر للموروثات والعقائد القدية التي كان أكثرها يعارض الإسلام. هذا على الرغم أن "شعب صنغي" وأكثر مناطق غرب إفريقيا في أيام "سني علي" كانت تدين بقوة بالإسلام، وهو ما جعل العلماء والفقهاء يعارضون حكمه، وهو ما أدى لاضطهاده العلماء.
خريطة توضح امتداد نفوذ سلطنة صنغي في غرب إفريقيا
السلطان سُني بار:
ثم حكم صُنغي من بعد "سُني علي" ابنه السلطان "سني (سوني) بار" (898-899هـ) الذي رفض اعتناق الإسلام علانيةً، ما أدى إلى قيام ما يشبه الثورة الشعبية ضد هذا السلطان، قادها علماء صنغي لإسقاط حكمه، ثم تبنى قيادتها قائد الجيش في أيامه، وهو المدعو باسم: "محمد طوري" (توري). وعلى هذا كان ارتقاء السلطان "سُني بار" العرش وسط أجواءٍ مُضطربة في هذه السلطنة، خاصةً من جانب "محمد طوري" أحد كبار قائد الجيش، وهو ذاته الذي اشتهر بعد ذلك باسم السلطان "أسكيا محمد". ويقال إن هذا "الأسكيا" كان يمت بصلة قرابة مع السلطان "سني بار". لكن رفض "سُني بار" أن يعتنق الدين الإسلامي هو ما أشعل الأمور والاضطرابات في هذه البلاد. ومن ثمة بدأت المواجهات تحتدم بين كل من "سُني بار" من جانب، وقائد الجيش (محمد طوري) من جانب آخر، حيث أظهر "محمد طوري" ميله القوي للدين الإسلامي، وشعائره، وطقوسه على نقيض السلطان المارق "سني بارو". وقد أدى ذلك الموقف غير الحكيم من جانب السلطان لحدوث ما يشبه التمرد الشعبي ضده قاده العلماء والفقهاء الذين سخطوا عليه أشد ما يكون السخط، وعلى موقفه من الإسلام، وهو دين البلاد الرسمي.
السلطان أسكيا محمد:
اشتهر السلطان "أسكيا محمد" (899-935هـ)- قديما- بـ"محمد طوري"، أو "توري" (توريه)، وذلك نسبة لاسم عائلته التي ينتسب لها، وهي عائلة طوري (توري)، أو "توريه"، (وهو اسم لقبيلة معروفة في بلاد غرب إفريقيا حتى يومنا هذا)، وكان ذلك قبل أن يرتقي "أسكيا محمد" العرش في بلاده، ثم عُرف بعد ذلك بـ"الحاج محمد"، وكذلك عرف باسم السلطان "محمد الأول"، وكذا "الحاج محمد سكية"، كما أنه حمل لقب "السيلانكي"، وهي كلمة "سوننكية" نسبة لشعب "السوننكي" الإفريقي القديم. وهذا اللقبُ (أي السيلانكي) مشتقٌ من اللفظ المحلي في غرب إفريقيا: (سيلانكا)، وهو لقب يعني باللغة المحلية: الانتماء لـ"أسرة سيلا"، والتي ينتسب لها- فيما يقال- السلطان "أسكيا محمد". وتذكر بعضُ الروايات التاريخية أن قائد الجيش ("محمد توريه") كان من أصل عريق، فهو- فيما يقال- من أُمراء "الأُسرة الحاكمة" في "سلطنة صُنغي"، ويقال إنه كان ابن أخي السلطان "سُني علي". ومن المعلوم أنه كان يُطلق على قائد الجيش في ذلك الوقت لقب: "البالاما". وقد ارتبط اسم "الحاج" بهذا السلطان لأنه أدى فريضة الحج في بلاد الحرمين، وكل من قام بالحج في هذه البلاد كان يحمل هذا اللقب الجليل لديهم، إذ إنه يعتبر من ألقاب الشرف في هذه الممالك الإفريقية القديمة التي تدين بالإسلام.
ولما وقع الصراع العسكري بين كل من محمد طوري والسلطان "سُني بارو" الرافض للدين الإسلامي، تجمع المعارضون لحكمه من الجنود ضد السلطان، ووقعت المواجهة، وخلالها هزم قائد الجيش "محمد طوري" السلطان "سُني بارو" في معركة كانت حامية الوطيس فيما يبدو، وكانت تُعرف بحسب المصادر التاريخية باسم: "معركة أنافو"، وأنافو منطقة تقع بالقرب من عاصمة البلاد "جاو" في سنة 898هـ، غير بعيد عن مجرى "نهر النيجر". ومن ثم هرب السلطان المخلوع "سني بار" بعيدا، واتجه صوب المناطق الجنوبية من تخوم البلاد، ويبدو أن أهل صنغي شعروا بالفرح الكبير بعد إسقاط حكم "سُني بار"، بسبب خروجه عن الإسلام.
وعلى هذا صار الطريق ممهدًا أمام قائد الجيش "محمد طوري" حتى يرتقي العرش، ويحكم هذه البلاد، ومن ثمة صار يُعرف بعد ذلك باسم السلطان "أسكيا محمد"، وهو ما لقي ترحابا شديدا من جانب الشعب في ذلك الوقت، كما رحب بحكمه العلماء والفقهاء الكبار في صنغي. وعن فترة حكم "أسكيا محمد"، يقول أحد المؤرخين الإفريقيين القدامى في رواية مهمة: "إن الله حرر المسلمين (في صُنغي) من الكرب ومن الأسى.."، وذلك لأن السلطان "أسكيا محمد" وضع حدًا لمعاناة شعب "صُنغي" مع الحاكم السابق الذي كان يعادي الإسلام.
وعلى هذا، استقرت أمور الحكم للسلطان الجديد ("أسكيا محمد")، وقد دام حكمه قرابة 36 سنة، ويُعتبر "أسكيا محمد" من أعظم الحكام والسلاطين في تاريخ بلاد غرب إفريقيا (أو بلاد السودان الغربي)، إذ شهدت "سلطنة صنغي" في أيامه أزهى عصورها على الإطلاق، وكانت أيامه أقوى مراحل ازدهارها السياسي والاقتصادي، وقد امتداد نفوذ سلطنة صنغي أيام هذا السلطان على أكثر المناطق والأقاليم في غرب إفريقيا. ومن ثم صارت "سلطنة صنغي" أقوى مملكة إفريقية في هذه المنطقة آنذاك. وكان "أسكيا محمد" محبا للعلم والعلماء، وكان مقبلا على بناء المساجد، والمدارس والمراكز التعليمية في بلاده. ولعل من أدلة ازدهار "سلطنة صنغي" أيام أسكيا محمد ما حمله معه في موكبه خلال رحلته للحج التي قام به، حيث حمل مثاقيل هائلة من الذهب والتي يقال إنها كانت تبلغ حوالي 300 ألف مثقال من الذهب الخالص، كنفقات لرحلة الحج التي سوف يقوم بها أسكيا محمد.
قبر أسكيا محمد في جاو على طراز الأهرامات المصرية
ولما عاد السلطان "أسكيا محمد" من رحلة الحج، أعد لنفسه قبل موته (أي: في سنة 935ه)ـ قبرًا ليدفن به، ومن اللافت أن هذا القبر كان مشيدًا على طراز معماري فريد، وغير مسبوق في هذه البلاد وهو طراز الأهرامات المصرية حيث انبهر بأهرامات الفراعنة المصريين خلال زيارته التي قام بها لمدينة القاهرة خلال رحلة الحج. ويمكن القول بأن قبر "أسكيا محمد" كان ولا يزال له شهرة في غرب إفريقيا بفضل مكانة صاحبه. وعلى ذلك يُعرف هذا القبر باسم "القبر الهرمي" La Tombe Pyramidale، بينما يطلق عليه آخرون: "البرج الهرمي"، أو "البرج ذي الطراز الهرمي"، كما يُطلق عليه أيضا "البناء الهرمي" PyramidaleStructure وهو بناءٌ معماري رائع بمقاييس هذه البلاد، وهو بناء يشهد بتأثر ملوك إفريقيا بطرز العمارة المصرية.
كما يشهدُ هذا القبر العظيم على قوة وثراء "سلطنة صنغي" أيام "أسكيا محمد"، والتي ازدهرت خلال القرنين 9-10هـ من خلال سيطرة ملوكها على "التجارة الصحراوية" Trans - Saharan Trade، لاسيما بفضل تجارة الذهب. ويحرص أهلُ البلاد زيارة القبر، لأنه يحمل لهم الكثير من ذكريات العظمة، وعبق المجد الغابر. ويُشكل قبر أسكيا محمد بناءً مميزًا داخل "مجموعة معمارية" تضم العديد من المباني، والتي تُظهر في حد ذاتها نمطًا، وطرازًا غير مسبوق من طُرز العمارة الإفريقية في العصر الوسيط، إضافة لبعض التأثيرات الوافدة من خارج هذه البلاد.
سلطنة صُنغي أيام أبناء أسكيا محمد:
شهدت المرحلة الأخيرة من حياة السلطان "أسكيا محمد" الكثير من المُعاناة، والتقلبات الغير متوقعة، ونكران الجميل من جانب أبناء هذا السلطان الإفريقي العظيم. ويبدو أن السلطان "أسكيا محمد" عاش عمرًا طويلًا (قرابة 97 سنة)، وطعن في السن، والراجح أنه لم يعد قادرًا على الحكم كما كان في عنفوانه، لكن ذلك لا يُبرر ما فعله أبناؤه، وأن يسيئوا معاملته، وأن يقوموا بعزله بقياده ابنه السلطان أسكيا موسى الذي حكم بعد أبيه خلال الفترة من (935-946ه). وعن ذلك الذي وقع أواخر حكم أسكيا محمد يقول المؤرخ الإفريقي محمود كعت: "عزلَ أسكي موسى أباه أسكي محمد، وتسلطن، ولم يبارك الله له في سلطنته، وذلك في يوم عيد الأضحى من العام الخامس والثلاثين.. وعاش سبعًا وتسعين سنة..".
ولما عُزل عن الحكم على يد ابنه أسكيا موسى دعا عليه أشد الدعاء، وأن يكشف الله عورته، وقد استجاب الله له. وعن نهاية "أسكيا محمد"، يقول الوفراني: "ولم يزل (أسكيا) على سيرته الموصوفة إلى أن اخترمته المنية، فقام بالأمر بعده ولده..".
وتذكر المصادر التاريخية أن أبناء السلطان "أسكيا محمد" أعلنوا التمرد عليه، وأجبروه على التخلي عن العرش لابنه "أسكيا موسى"، ثم نُفي أسكيا محمد إلى جزيرة نائية سنة 934هـ. ويقال إن السلطان "أسكيا محمد" كان قد استنجد بأخٍ له بعد أن تمرد عليه أبناؤه، لكن قُتل أخو أسكيا على أيدي أبنائه. وقد بقي السلطان "أسكيا محمد" في منفاه مدة تناهز 9 سنوات، وقد فقد بصره في آواخر أيامه، ثم أعيد "أسكيا محمد" من المنفى أيام حكم ابنه أسكيا إسماعيل، ثم عاش أسكيا محمد بمدينة "جاو" (مالي حاليًا) حتى مات بها بعد عودته من المنفى بحوالي سنة فقط، وكان ذلك في عام 935هـ. وفي أيام حكم أبناء "أسكيا محمد" شهدت سلطنة صنغي مراحل من الضعف لأنهم لم يكونوا على ذات خصال أبيهم من القوة، حتى سقطت سلطنة صنغي على يد الباشوات المغاربة في سنة 999هـ أيام حكم السلطان أسكيا إسحق، وبهذا سقطت واحدة من أعظم ممالك إفريقيا الإسلامية جنوب الصحراء الكبرى.
كلية الآداب - الجامعة الإسلامية بولاية مينيسوتا