د. أحمد ربيع يكتب: "وثيقةُ الأُخُوَّةِ الإنسانيَّة"صرخةٌ لإحياء الضمير الإنساني
في الوقت الذي بلغت فيه النهضةُ العلميَّةُ أَوجَها، فتقدمت بالإنسان فصعد بها عالم الفضاء، ومكنته من اختصار المسافات طيًّا، إلا أن تلك النهضة العلمية خلفت وراءها عالمًا يموج بالصراعات المدفوعة بالرغبة في السيطرة والهيمنة، وعجزت تلك النهضة العلمية عن تأسيس مجتمعات تقوم على احترام إنسانية الإنسان التي خلق بها وتطلع أن يحيى في رحابها، فبدلًا من تسخير التقدم ليرقى بإنسانيته ويصعد إلى مراقي العلا، إلا أنه – وللأسف- بات يجني ويلات هذا التقدُّم النوويِّ والتكنولوجي والبيولوجي، أُسَرًا مشتَّتة ومجتمعات متفرقة، وغرقى في البحار وجوعى ينتظرون الموت وهائمون على وجوههم فرارًا من طلقات رصاص حروب الجيل الرابع والخامس.
وبات العالم كله لا يشاهد عبر شاشات الإعلام إلا خطابات تُكَرِّس لسياسيات الهيمنة الجائرة، والترويج لأيدولوجيات إمبريالية متغطرسة تتحدى وتتوعد بفرض عقوبات مرَّة، ووضع على قوائم الإرهاب مرَّة، وخلق الفتن بين الشعوب مرَّة، وتهديد مصائرها وأمنها القومي أخرى، وبات الإنسان في حيرة من أمر وجوده في هذا العالم المضطرب الذي لم يَعُد له مرجعٌ تُقَوِّمُ جموحَه الزائد.
ولم تَعُد القوانين والمنظومات التشريعية والمعاهدات الدولية تمثل قيودًا جادة تهذب شططه وترده إلى إنسانيته، وكان لا بد من صرخة صادعة بالحق تعبِّر عن آهات المكلومين الذين جرَّدتهم الحروب والصراعات من إنسانيتهم، وفي وسط هذا المناخ الملبَّد بالغيوم أشرقت شمس التلاقي الإنساني المفتقد، وسطعت بادرة أمل من رحاب الأزهر المعمور بمشاركة حاضرة الفاتيكان، عادت معها البسمة على شفاه الضعفاء والمستضعفين المهجَّرين والمشرَّدين والمنكوبين، من أنهكتهم الحروب والصراعات الطائفية والدعوات التخريبية والأجندات الرأسمالية الماردة، ووجد هؤلاء وأمثالهم في سطور الوثيقة صوتًا من الحكمة يحيي فيهم إنسانيتهم المفقودة. لقد سطرت تلك الوثيقة المعنى الحقيقي لإنسانية الإنسان، واستمدت تلك الوثيقة قيمتها من الرصيد العالمي الذي يحظى به كلٌّ من فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر وقداسة بابا الفاتيكان، فانطلقت بمبادئها وأهدافها تسري في وجدان الإنسانية ارتياحًا وقبولًا.
والوثيقة وإن كانت تُعَدُّ عملًا بشريًّا في نهاية المطاف إلا أنها وجدت قبولًا غير مسبوق من هذا العالم المتعطش لصوت الحكمة والإصلاح المجرد عن الرغبة في تحقيق مكاسب سياسية أو مادية، هذا القبول كفيل بأن يصنع مناخًا ملائمًا يسهم بشكل جاد في استمرار مسيرة صناعة السلام العالمي على هدي بنود الوثيقة وفي ظلال مبادئها المضيئة التي استمدت ضياءها من كونها تنطلق من الحقيقة اليقينية الكبرى ألا وهي اسم الله العظيم مبدأ كل أمر ومنتهاه، مستهدِفةً رعاية النفس البشرية المصونة المعصومة معبرة عن آلام والمستضعفين والخائفين والنازحين من ضحايا الحروب والظلم والاضطهاد.
ومثلت الوثيقة برموزها الصانعين لها ردًّا حاسمًا على من يتهمون الأديان ونصوصها المقدسة بصناعة العنف والإرهاب والتسبب في إذكاء نيران الحروب والصراعات، فانطلقت بمبادرة ورعاية كريمة من رموز دينية يشهد لها العالم بالتوقير والنزاهة، مؤسسة على نصوص الأديان وتعاليمها التي تنبذ أشكال الصراعات وتحض على قيم التعايش الإنساني المشترك الذي يسهم في صناعة الحضارة الإنسانية النافعة لبني البشر جميعًا.
وتأتي الخطوة التالية لتمثل تحدِّيًا واختبارًا حقيقيًّا لصُنَّاع القرار والسياسيين لتضعهم على المحكِّ، وليثبتوا لشعوب العالم مدى صدق رغبتهم الجادة في السعي لتحقيق السلام العالمي من عدمه، فوجهت لهم نداءً بضرورة العمل جديًّا على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، والتدخل فورًا لإيقاف سيل الدماء البريئة، ووقف ما يشهده العالم حاليًا من حروب وصراعات وتراجُعٍ مناخيٍّ وانحدار ثقافي وأخلاقي.
وتوجهت الوثيقة إلى صُنَّاع الرأي وتشكيل الوجدان من المفكرين والفلاسفة ورجال الدين والفنانين والإعلاميين والمبدعين في كل مكان ليعيدوا اكتشاف قيم السلام والعدل والخير والجمال والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وليؤكدوا أهميتها كطوق نجاة للجميع، وليسعوا في نشر هذه القيم بين الناس في كل مكان، فكان هؤلاء جزءًا من الرسالة الإنسانية التي ترسيها بنود الوثيقة، فوجهتهم إلى مراعاة أولويات المرحلة الراهنة من تاريخ البشرية العصيب، ليكون لهم بصمة إيجابية بنَّاءة بدلًا من الاهتمامات الأخرى من الأحاديث الجدلية التي تسطح العقول وتنأى به عن مساره الإيماني الصحيح، وبعيدًا عن نشر العنف وخطابات الكراهية ودعوات الاتهام المتبادل.
ونحن على يقين من أن هذه الوثيقة ستجد لها أرضًا خصبة ومناخًا ملائمًا يتلقفها بكل ترحاب ويضع لها إطارًا من الفاعلية والتنفيذ.



