أنت على إرتفاع 910 أمتار عن سطح البحر, و على بُعد 44 كيلومتراً عن بيروت... أنت في "شتورا".
الوقت صيف, والدنيا أول النهار, و الشمس المحمرة العين, ما حولت دربها عنا, تلتف على الأشياء, تأوى الى أحضان شجرة, حيناً, ثم تجلس خلف أخرى تتسوّل نسمة عليلة تتلامح, تتحرش بك, ترش عليك العرق المالح, تضج بالضوء, فيمد يده على كل المطارح, يهتك ستر الألوان.
لا تعرف "شتورا" النوم, و لا ترتاح من الناس, و لا يتركونها لحالها، فهي على الدرب الى دمشق, بين السيارة والسيارة سيارة أخرى تكرج عليها في جيئة و رواح, و هي تزهو بحالها, لأنها بوابة "سهل البقاع", الذي كان "إهراءات روما" يطعمها من خيرات أراضيه, و يسكر من عناقيد عنبه, و نبيذه "الكسارة", الذي يحاكي النبيذ الفرنسي ويبّزهُ " "شاتو كسارة"؛ "شاتو كفريا"؛ "شاتو مون ليبان"... و تكّر الأسماء.
وعندما يهزم الفجر العتمة, و مع إشراقة الضوء, يأتيها الصيادون, ببواريدهم و بكلاب الصيد المدربة على الطرائد, فمواسم صيد العصافير في "البقاع" موصولة الأيام و متتابعة : واحدة لعصافير "الفري", و أخرى لطيور "الصنج", و "دجاج الأرض", و "السمن الأحمر", و "السمنة", "الحجل"... و"شتورا" محطة البداية و النهاية, منها يبدأ النهار و فيها ينتهي. و"الترويقة" سحلب ساخن, و كعك بسمسم.
تقف أمام بيت سويسري الطراز المعماري, تحته محلات تفتح فمها الكبير, و خلف واجهاتها الزجاجية, أرفف إصطفت فيها كل ما يحلو لك من ألبان و أجبان. و فوق الأبواب إسمها: "بديعة مصابني"... و يكفي فتعرف أن ملكة ليالي القاهرة, هنا في "شتورا" صار عرشها.
تَهِلُّ عليكَ. بيدها عصاها المزخرفة التي لا تفارقها, و يتهلَّلُ وجهها, ندّت عنها ضحكة مقتضبة, تَلَوَّنَ صوتها بالطيبة: " أهلاً وسهلاً... تفضّل".
العينان في رأسي تدوران في المكان المنسق بذوق, أومأت, مشيت خلفها الى ركن في الحديقة, مُعَمّم بعريشة, تتدلى من بين أوراق العنب الخضراء عناقيد البركة.
جَلَست الى طاولة, و جلست أنا قبالتها, دخلت فتاة, خفيفة الوطء, وضعت أركيلة طويلة العنق الى جانب الست بديعة, ركزت على التنباك الجمرات, ثم عادت بصحن فخار فيه رغيف "مرقوق", (رغيف مطهو على الصاج على العادة في القرى اللبنانية), ملفوف بتأنٍّ و في داخله "لبنة", وإلى جانبه أوراق النعناع الأخضر, وركوة قهوة بن "عثملي" تفوح منه رائحة حبّات "الهال".
إستوت الست بديعة من جديد على كرسي القش, وضعت حلمة نبريش الأركيلة في فمها, أخذت نفساً, نفخت الدخان, فاحت رائحة التنباك "العجمي" المؤصل, سوّت الجمرات بملقط نحاس أصفر، ركزت علي أرنبة أنفها نظارتها, قرأت ورقة صغيرة كانت أمامها, طوت الورقة, رفعت النظارة عن أنفها, تناولت ركوة القهوة, صبّت منها في فنجان صيني مزخرف, قدمته لي.
تجاعيد زاويتي الفم تشي بالكبر, و لولاها لما شعرت و أنت تمسح وجه الست بديعة, أن السن علت بها, فالجمال لم يسحب كل ذيوله منها, العينان في وجهها, يفيض منهما سحر غريب, و العذوبة الشفافة عندها نظرة عين و إختلاج شفة.
تنهدت, إصطدمت عيناها بوجهي, قالت بصوت هادىء, عالي النبرة, كأنه من مستلزمات وقارها: " تعرف... بسبب من يوسف وهبي, خسر المسرح روز اليوسف, و ربحتها الصحافة. كانت في عز عطائها وتألقها لما جاء يوسف وهبي يمنع تألقها, و يُبّدي عليها فتاة مغمورة كان إسمها أمينة رزق".
و عادت الى نبريش الأركيلة, أخذت نفساً, يكركر الماء في الأركيلة و يتراقص, نفثت الدخان, تكوم, و تطاير. ما إختلف الحكاءون على شيء, مثلما إختلفوا على سيرة بديعة مصابني, و ما تعددت مرويات الرواة, مثلما تشابكت, و تناقضت, و تعددت مروياتهم, حول ملكة ليالي القاهرة. تعمدت أن أسرد عليها ما لملمته من أفواه الرواة و الحكائين عنها, عن طفولتها في دمشق ثم في بيروت, و أيامها في الأرجنتين, و سنوات عمرها في "المحروسة", التي كانت تصحو و تنام و تسهر على صوتها و فنها و ليالي ملهاها.
وتركتها, تغزل الكلام باللهجة المصرية التي لم تنسها, تمر بين الفينة و الفينة كلمات باللهجة "الزحلاوية", تروي حكايتها مع الزمن, و الزمن كان زمانها: " إسمي وديعة, أبويا جورج مصابني, لبناني أباً عن جد, و أمي جميلة الشاغوري سورية الأصل و المولد, و لما كبرت شوية كنت جميلة جدًا فسموني بديعة، أبويا كان يملك مصنعاً للصابون فى سوريا ، لكن المصنع اتحرق، وتوفى والدي و شقيقي.
باعت أمي إسورة و قيراط ذهبى مرصع بالماس لنسافر معها أنا و أخي الى الأرجنتين. كان عمري وقتها ثماني سنوات, هناك إتعلمت في مدرسة راهبات داخلية و أتقنت اللغتين الفرنسية و الأسبانية.
إكتشفت الراهبة المسؤولة عنا موهبتي في الغناء, و التمثيل, و الرقص الإيقاعي, كذلك إجادتي لفن الإلقاء, فأديت عدداً من ألأدوار المسرحية على خشبة المدرسة ".
تزدحم في عينيها الكلمات و هي تدير الأحاديث, حست حسوة من فنجان القهوة, مصّت شفتيها, لم تدعني أسأل, أكملت غزل الكلام: " بعد مدة, عنَّ على أمي السفر الى مصر لنعيش فيها عند خالي, الذي كان يسكن فى منزل مجاور لمسرح الأزبكية. كنت بأحب أتمشى كل يوم في الحديقة, و أتفرج على ملصقات المسرح, و أتمنى أن يكون, ذات يوم, عليها إسمى بالخط النافر العريض".
عيناها هامتا في أوراق العنب التي تظللنا, حَفَل صوتها بنشوة طارئة حلوة:
" وحدث ذات يوم , أن قابلت المؤلف فؤاد سليم, فعرض عليّ أن أدخل عالم التمثيل, لم أتردد, وافقت, و ما كان منه إلا أن قدمني الى إبن بلدي جورج أبيض, فطلب من فؤاد تعليمى اللغة العربية, و خلال أقل من 3 أشهر, كنت أجيد أصول اللغة العربية, و أجيد التحدث بالفصحى من دون أخطاء التشكيل.
ولكن أمي رفضت التحاقى بمجال الفن، و قررت ترجع بنا الى لبنان، و في محطة القطار, سبتها تركب, و هربت منها, فقد كنت عزمت على البقاء في القاهرة ,لأستمر في العمل بالتمثيل والرقص، كنت أيامها في التاسعة عشر".
لاحظت أن ملامحها تراخت, و شيء من الزهو والإعتزاز إحتل وجهها, تشرنقت أول ضحكة بلورية ثم تبعتها ضحكات:
"كنت أول سيدة عربية تقص شعرها, و أول واحدة تقود سيارة , و تركب طيارة, ما كنتش محتاجة ألبس "كورسيه" و لا مشد للصدر, كان جسمي متناسق. لم ارتدِ أبداً طول مشوارى بدلة رقص, كنت أرفض التعري على خشبة المسرح و أُفَضِل ألبس فساتين" سوارية" و بدلات شرقية, لأظهر بشكل مختلف على خشبة المسرح".
رفّت نسمة إرتجفت منها أوراق العنب الخضراء, دبّت في عينيها يقظة, و شاع في نظرتهما الإبتسام و هتفت: "أحببت نجيب الريحاني و أحبني, و تواعدنا على الزواج, وتزوجنا, و مثّلنا معاً على الخشبة, و نجحنا, وسافرنا, طُفنا أمريكا الجنوبية, و حملنا الى بيروت, و غير عاصمة عربية, إستعراضاتنا, و مسرحياتنا, و نحن الاثنين تعلمنا الكثير من عزيز عيد" تلملم من وجهي علامات الإستفهام, صهل صوتها مثل الجواد و هي تقاطعني: "لولا عزيز عيد ما كان نجيب الريحاني, و لولا عزيز عيد ما كان يوسف وهبي و مسرح رمسيس, عزيز عيد مغبوب, و مُساء إليه, مغموط الحق, هو أبو المسرح في مصر و ليس مثله لا قبله و لا بعده". وتستفسر , فتفسر لك و توضح:
"كان عزيز عيد, يتقن الفرنسية بطلاقة, فهو تعلم في بيروت في "الليسيه الفرنسية", وشغف بالمسرح الفرنسي, وعاش زمنا في باريس, و هو أول من عُرِف المصريين على هذا المسرح, و نقل أعمال جورج فيدو, الذي إمتازت مسرحياته بفن ما يسمى Farce أي تمثيل حادث مضحك, مليء بالمداعبات Bouffonnerie كما يسميها الفرنسيون, و قد لقّن و علّم عزيز عيد نجيب الريحاني, هذا النوع الكوميدي. و كان من السهل على الريحاني قراءة النصوص باللغة الفرنسية, فهو يتقنها جيداً, فقد تلقى كل علومه في مدرسة "الفرير", و عندما أسس عزيز عيد فرقته المسرحية سنة 1907 ضم إليها الريحاني".
وتكمل الست بديعة, إماطة اللثام عن حقائق طُمست معالمها:
"سنة 1915 شكّل كل من إستيفان روستي, و أمين صدقي, و نجيب الريحاني, و حسن فائق, فرقة "الكوميدي العربي", بإشراف عزيز عيد, الذي لم يكن فقط الكاتب و الناقل و المقتبس للنصوص المسرحية, إنما أيضاً المدرب, و المعلم, و المخرج.
قدمت الفرقة عروضها على خشبة مسرح "برنتانيا", و أول المسرحيات كانت واحدة ترجمها أمين صدقي لجورج فيدو و هي مسرحية "خللي بالك من إميلي Emilie"Occupe-toi d’. ثم ترجم عزيز عيد لجورج فيدو , أيضاً , مسرحية لا تقل جرأة عن الأولى, و هي مسرحية "ياستي ما تمشيش كده عريانة" و بالفرنسية: .Madame, ne marchez pas donc toute nue لم يتقبل الناس الجرأة في العملين, و إنتهت تلك التجربة الى الفشل, و خسر الكل إلا الريحاني, فقد تعلّم من عزيز عيد الإخراج, و التمثيل الكوميدي الصحيح, و نقل شخصية "بوشيه" والد إميلي, و طورها, و مزجها بشخصية العمدة في " القرية الحمراء" , و هي ميلودراما كتبها وأخرجها عزيز عيد سنة 1917, فكانت شخصية "كشكش", التي عاش عليها نجيب الريحاني".
وكأنها أدركت أن السؤال التالي عن الإنفصال و الإفتراق, فراحت تروز كل كلمة, قبل أن تخرجها من حبس شفتيها: "إنفصلت عن نجيب الريحاني بسبب النوم, اذ كان يسهر كثيراً مع صديقه بديع خيري, و عندما يثقل النعاس والتعب أجفانه, يلوي يغط في نوم عميق طول النهار. كنت لا أجده عندما أفكر في الخروج, أو اذا إحتجته فى أي أمر طارىء... فكان الخلاف بيننا, و حدث الإنفصال, لكنني أعترف بإنه كان فناناً عظيماً, تعلمت منه الكثير". حافظت بديعة مصابني فيما قالته, على العشرة الطيبة بينها وبين الرجل الذي أحبت, فنبضت العاطفة الإنسانية في كل كلمة من كلماتها, و في كل تصرف من تصرفاتها, و في كل لفتة من لفتاتها بعد الإنفصال والإفتراق.
وما لم تقله و توضحه، قاله كثيرون عرفوا الرجل, و كانوا قربين منه, فالريحاني كان رجلاً مملاً, متقلب المزاج, من الصعب إرضاءه, إنطوائي, قليل الكلام, خارج خشبة المسرح, أو بعيداً عن عدسة الكاميرا, لا يتفاعل مع الذين حوله و حواليه, كأنه مسجون داخل نفسه, كانت هي في الخامسة والعشرين من سنيها, تحب الحياة و الناس, و تحب المرح و السهر, و على العكس منه, ممراحة طروب, فكان من الطبيعي أن يفترقا, إلاَّ أنها, يخبر العارفون بها, عاشت على ذكراه, و لم يحتل قلبها غيره.
لكن ماذا فعلت بديعة بعد الإنفصال؟
و الحكي مستمر...



