جثة بدون عنوان
لثوانٍ أطلت الشمس من بين الغيوم القاتمة التي تكاثفت في منتصف نوفمبر، ليشعر بدفئها اللذيذ عم سعيد للمرة الأخيرة على وجهه الأسمر الضامر، وعندما غابت من جديد سقط على الرصيف فاجتمع حوله المارة وأصحاب المحلات المجاورة، حاولوا إفاقته وهو يهمهم بكلام غامض وفي النهاية أرقدوه في انتظار الإسعاف، بعد حوالي45 دقيقة من ارتطام جسده بالأرض أعلن المسعف وفاته ورحل بسرعة، وبقي عم سعيد ممددًا على الأرض مغطى بملاءة قديمة قذرة نخرها الزمن في كل مكان، العارفين بأحوال الموت وخبراء الجنائز وطقوس الدفن أعلنوا موته قبل مجيء الإسعاف بفترة، الموت يغير سحنة الإنسان والجسد المسجى للمرة الأخيرة دون أمل في القيام من جديد له لغة لا يفهمها سوى من عاشر الموت، ورآه يحتل الجسد الإنساني ويجعله ضئيلًا وعاجزًا ومثيرًا للشفقة.
مع إعلان الوفاة ظهر سؤال على ألسنة أهل الشارع "أين يسكن عم سعيد، أين يقطن أهله؟". تطوع المدعون- الكثرة الطاغية في المجتمع- فأدلوا بمعلومات تضاربت كلها: شبرا، السريع، شارع فاطمة الزهراء.. تليت بجوار الميت كل مناطق دمنهور القديمة، ولو أعيدت له الحياة لحظتها لضحك عليهم من قلبه، وتم إرسال العديد بناء على إفادات خاطئة إلى مناطق عدة عادوا منها خائبين، ازداد عدد المجتمعين حوله، وقد كان معظمهم لا يحفل به ويراه أقل من أن يدير معه حوارًا أو يجالسه، ربما يحسن عليه بمنحه حذاءه ليلمعه. البعض جاء للفرجة والترحم، والآخرون- وهم الأغلبية- تحلقوا حول الميت هربًا من تفاهة وتكرار حياتهم اليومية ليندمجوا مع معنى أكبر.
- نلتقط له صورة ونضعه على الإنترنت ربما يراه أحدٌ من أهله.
-إن للميت حرمة!
- أهله لم يسمعوا عن الإنترنت يومًا، وبالتأكيد لا يستخدمونه!
- إذن هل يبقي الرجل ممددًا في العراء إلى الأبد؟!
- نكلم النجدة.
- النجدة ستشرح الجثة وتفتح تحقيقًا، والرجل مات موتة ربنا أمامنا فما أهمية إبلاغ الشرطة؟

من تخطوا الثلاثين في الشارع وعوا على الدنيا وعم سعيد في مجلسه وراء صندوقه الأسود الداكن، يُجاهد مع عينيه كي يرى الحذاء الذي يمسحه، ويقربه من نظارته الغليظة حتى يعتقد من يراه أنه يقبله أو يشمه، وربما سأل الزبون عن لون الحذاء حتى يختار له الورنيش المناسب، ومع ذلك لا يعرف شخص أين يعيش، لم يهتم أحدهم أن يسأله كيف يعيش؟، عاش وحيدًا ومات في صمت كما يليق برجل عاش في حاله، مرت مليحة في عباءة سوداء فالتفت نحوها ثلاثة شباب وبدا أنهم نسوا كل ما يخص المتوفى.
- ألم يفكر أحدكم في التفتيش عن بطاقته الشخصية؟
- ليست معه.
انبرى أحد القادمين الجدد للتحديق في الجثة الممددة:
- الله يرحمه كان معه موبايل في جيبه، ربما يحمل رقم شخص يعرفه.
- لم نجد معه موبايلات.
الواقع أن الموبايل سرق من اللحظة الأول التي تحلق فيها الناس حوله، موبايل قديم جدًا منقرض لا يرضي طفلًا للهو به، لكنه ربما يوفر حبة مخدرة أو أي نوع من السم الهاري لمدمن محطم.
عندما وصل الحاج منصور بسيارته الفخمة أمام الجثة، وجدها فرصة ليتباهى أمام المعوزين من أهل المنطقة، وقد تعود أن ينتهز فرصة أي تجمع ليبسط سيطرته المعنوية على قلوب الفقراء ويزيد نظرات الحرمان في عيونهم، فتلكأ في النزول وربط الكمامة على وجهه. توقف لثوانٍ أمام الجثة وبحركة من يده أبعد الجميع.
-إلام تنظرون؟! لا تقفوا هكذا.
أشار لسائقه وأمره أن يبحث عن أحد معارفه، لحظتها تذكر السائق أن المرحوم أخبره ذات يوم بعيد أنه يعيش في أبو الريش، وأغلب الظن أن علاء السائق لو سمع الأقاويل المؤكدة بكل الأيمان أنه يسكن في أماكن أخرى لاضطرب ونسى وتاهت منه تلك الذكرى، أو ربما عرضت له باهتة كحلم قديم فلم يتكئ عليها ويتصرف على أساسها. تحرك بالسيارة في شوارع وأزقة أبو الريش المكسرة والضيقة، ولم يصل لشيء على الإطلاق، لقد كان عم سعيد وحيدًا بصورة فظيعة، لم يتزوج يومًا ولم يعرف له أهل بل هو نفسه كان مجهولًا عند الكثيرين من جيرانه، وقبل أن يعود علاء خائبًا لينضم هو الآخر شاهد شابًا يهرع نحوه.
- قيل لي إنك تبحث عن عائلة عم سعيد، أنا ابن أخته.
تفحصه علاء، وهمهم:
- عم سعيد تعيش أنت.
جاء الشاب مع أمه وأبيه في سيارة الحاج منصور، حملوا الجثة في سيارة أخرى استأجروها وسط نظرات امتزج فيها الحزن الصادق، مع سعادة غامضة شاعت في النفوس؛ لأن الموت لم يهزمهم اليوم كما هزم عم سعيد وطرحه أرضًا دون تحذير، مازالوا يحييون ويتنفسون وها هي الشمس تُشرق من جديد والأصوات تطرب آذانهم والألوان جميلة تبهج العيون، وكما احتشدوا في لحظة تفرقوا في لحظة، نادى الحاج منصور على ابنه عوض المعروف في الشارع بـ"ابن الحاج"، دون صفة أو قيمة أخرى يحملها في حياته الفارغة، إلا من العبث والموتوسيكلات واللهاث خلف البنات المغويات في الحواري الخلفية، وأعطاه كيسًا أسود:
- قل لأمك تحمر هذا اللحم جيدًا وتطبخ عليه كيس مكرونة.
أما الشباب الذين لم يبرأوا من سهام الجميلة، التي تداعب خيالهم في الثوب الأسود الناطق بحكاية جسد ريان يعلن حلاوة الدنيا، ويزين لهم الحياة في أحضان امرأة مثلها فتسكرهم الأحلام، فاندفعوا ناحية المقهى، استعدادًا لمشاهدة المباراة المرتقبة على القنوات المشفرة.. وحده الصندوق الأسود الداكن بقي على الرصيف متواريًا في زاوية متربة.



