الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

رغبة غير قابلة للالتهام

رسم: احمد سميح
رسم: احمد سميح

مَرَّ من العمر عُمْرٌ إلى أن أدركت ما حدث فى قصة "الحرام" ليوسف إدريس، لم أستوعب دور البطلة الحقيقى، وأنها أسلمت جسدها طوعًا لوالد طفلها الموْءُود. كانت تردد "جذر البطاطا هو السبب"، فتمُرُّ على الجملة كاتهام لرغبة زوجها فى البطاطا، تلك الرغبة التي أشعلت رغبتها بمجرد وقوع ذلك الجسد الضخم فوقها، يتلاعب بشهوتها المحرومة، تشبثت بما رفضه عقلها فى البداية، انتصرت الغريزة على الفضيلة، الجوع دفعها إلى التهام هذا الجسد الثقيل ليطفئ ظمأها.

كيف لم أشعر بالمِثْل عندما استسلمتُ ليد ذلك الطبيب؟!

تعرفت عليه فى مكان العمل، يكبرنى بأعوام تكفى ليقترب من عُمْر والدى، لفت نظره قلة حديثى، ولطالما بادرنى بابتسامة هادئة تليق بصمتى، كان أحيانًا يردد عبارات مهذبة عذبة لينتزع بعضَ الكلمات، فأردّ على استحياء وأعود سريعًا إلى ملجئى الصامت الآمن. انتابتنى وقتها نوبات شديدة من الصداع، زادنى التعب جاذبية، وألقى على وجهى مسحة من الألوان الباهتة، فصرتُ أقرب إلى نساء العصر الفيكتورى؛ حيث الجسد الواهن والمَظهر الموحى بأننى سأموت بعد خمس كلمات أو أقل.

ذات يوم جمعتنا مهمة عمل، هاجمتنى نوبة الصداع، فشحب وجهى، وكدتُ أفقد وعيى، طلب من العاملة أن تأتينى بكوب حليب دافئ، بدا متأثرًا مشفقًا على حالى أكثر مما أشفق على نفسى.

عندما استجمعت قواى، أخبرته بصوتٍ ساخر عن هذه النوبات، وكيف تسبب الرعب لمن حولى بوقوعى فجأة، لحد أن مديرى فى العمل أمرنى بتناول فطور جيد قبل الحضور إلى العمل، وإلا سيوقع علىَّ جزاءً شديدًا، بعد ذلك اليوم حين استجاب لطرقات أناملى الهشة على باب مكتبه، وما أن فتحه، وجدنى متكومة على الأرض بلا حراك. 

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

ضحكنا كثيرًا وهو يتخيل نفسه محل المدير، ثم طلب منّى زيارته فى عيادته الخاصة؛ لإجراء بعض الفحوصات الطبية، انصعتُ للفكرة ووافقت على الفور رُغْمَ مقتى الشديد للأطباء، ولِمَ لا وهو متخصص فى الأمراض النفسية، ربما يستطيع مساعدتى فى حالات الحزن والاكتئاب المزمن الذي أعانى منه.

راودنى اطمئنان إلى ذلك الحنان والدفء الأبوىّ المتدفق من عينيه وصوته، وقتما افتقدت هذا فى والدى، الذي لطالما بادرنى بقسوة ناجمة من شدة خوفه علىَّ، زادت بعد رحيل أمّى، وكأنه لا يعرف غيرَها طريق للتعبير عن الحب. 

"جذر البطاطا هو السبب"...

دلفتُ إلى العيادة فى ذلك الحى الراقى، وقد حدّد لى موعدًا مبكرًا قبل حضور المرضى، والعاملين، أغلق باب مكتبه الخاص متدثرًا بابتسامته الهادئة المعتادة، تحدثنا عن حالتي، لم أنتبه عندما جلس على الكرسى القريب منّى، وقد ألصق ساقه بساقى، لم أتلقَّ إشارات جسده، فقرّر إذابة الجليد طالبًا إجراء فحصًا كاملًا.

تمددتُ على السرير، أحضَر السماعة وظل يسبح على جسدى، لم أشعر سوى ببرودة المعدن، أغمضت عينَىْ خجلاَ كما أفعل عند زيارة أى طبيب، وأزيح ملابسى ليشخّص المرض.

بحركة خفيفة ودون أن أشعر، كمتمرّس يعرف أين وكيف يحرّك أنامله، استبدل السماعة بيده، تركها تنساب على منحنياتى، وعندما سألته مستفسرة بخوف من ظنّى به سوء، أجاب بحاجتى الماسّة إلى جلسة تدليك "مساج"؛ لتلين عضلاتى المتحجرة.

بتهذيب يتناقض مع شعورى بالمَلل والرغبة فى انتهاء الكشف الذي بدا وكأنه لن ينتهى، قلتُ بصوتٍ متحجر وكأنه إنذار "كده هأنام"، لم أعِ وقتها المعنى الحقيقى لهذه الجملة، وأنا ممددة شبه عارية ويده تتجوّل فى متاهات جسدى، فرد بصوت لم أفهم سبب ارتعاشه "المكان مكانك".

انتقل شعورى بالمَلل إليه، فطلب منّى النهوض وارتداء ملابسى، فوجئتُ أنه أزال عنّى كل قطعة تقريبًا، فصار نصفى العلوى أشبه بتمثال فينوس الرخامى، ناصعًا نظيفًا تمامًا، وقد انزلق عنه كل حجاب رقيق.

سألنى والدى عمّا حدث، أجبت بأنه لم يشخّص حالتي بعد، وطلب زيارة أخرى، رَدّ بإيماءة بسيطة، أخبرت أختى، دهشت من إجراء فحص جسدى وهو طبيب نفسى!! ذهبت إليه بعد أيام، جلس بقربى نفس الجلسة، سألنى عن حالتي الصحية التي لم تتبدل، طلب إجراء تدليك "مساج"، رفضت بتهذيب، سألنى عن السبب، أجبته بأننى فقط لا أرغب.

قام من مقعده ووقف خلفى، وبدأت أصابعه تدلك كتفى بنعومة، ضايقتنى لمساته فتململت بانزعاج، تظاهر بعدم الاكتراث وامتدت يده لتدليك رأسى، قائلًا "هذا سيزيح عنكِ الصداع".

لم أشعر بالراحة فقمتُ فجأة، لأجدنى سجينة بين الحائط وجسده الضخم، بدأ يضغط علىَّ بثقله، جاهدت للفرار، قائلة بصوت مزقه الخوف والرعب "سأصرخ ويسمع المرضى بالخارج صوتي"، أجاب بصوت كفحيح الثعبان "لا يهمنى".

تجمّدت فى مكانى، لم أختلف كثيرًا عن الحائط البارد خلفى، كففتُ عن المقاومة، فابتعد فجأة صائحًا "أمّال انتى جايّة هنا ليه؟!"، كأنه انتبه لقوله، فتبدلت ملامحه إلى اللين، وقد انتهزت ابتعاده فقفزت بجوار الباب وأمسكت المقبض، وجدته مغلقًا بمفتاح يلتمع فوق المكتب.

رجوته ليتركنى أذهب، شعرتُ بالغباء يغمرنى، قرأه على وجهى، فسألنى ثانية "مش معقولة تكونى فى السّن ده ومش فاهمة؟!"، لم أفهم ما يقصده، فطلبت الرحيل، اقترب ليفتح الباب، ابتعدت بحذر لكى لا أجد نفسى بالداخل ثانية، سألنى بنبرته القديمة الرقيقة "هتيجى امتى تانى؟!".

انطلقتُ مسرعة، أعيُن المرضى التفتت إلىَّ بقوة، نزلت درجات السلم، لا أعرف كم من الوقت تجولت فى الشارع محاولة استنشاق هواءً نقيًا.

عدتُ إلى المنزل، ألقيتُ التحية على أبى، لم يسألنى عن نتيجة جلسة اليوم، أسرعت إلى الحمَّام، فركت جسدى وشعرى بالماء الساخن والصابون، وددت لو غسلت أنفاسى، وكل ما خالطه، بكيتُ كثيرًا، لم أفهم أى شىء، لكننى أشعر شعورًا مريعًا لا يمكننى تحديده أو وصفه.

هاتفت صديقة مقرّبة، رويت لها ما حدث، أخبرتنى بقدر معرفتها كامرأة متزوجة بحقيقة ما مررتُ به؛ بل وأن جلسة التدليك لم تكن إلا محاولات متمرّسة لإشعال الرغبة، وغضبه منّى لأننى كنت باردة تمامًا، حاولتْ تهدئتى، قائلة إن قلة خبرتى أنقذتنى، وكادت تغرقنى فى ذات الوقت، وكان علىَّ الانتباه منذ أول جلسة؛ بل من أول لمسة. 

حافظ اللهُ على جسدى من الالتهام، وأطفأ رغبة كثيرًا ما تتأجج بداخلى دون سبب عندما توفرت لها كل الأسباب، مخاوف أبى أشد فتكًا مما فعله هذا الطبيب، وها قد خضتُ أسوأ مخاوفه؛ بل تلك التي لم تخطر بباله، وما زال يظن أنه يحمينى بفرط قسوته.

ظللتُ أبكى إلى أن قاطعتنى مهاتفة أختى، أخبرتها، نهرتنى ولامتنى بشدة لعدم فهمى، غمرت جروحى بالملح الخشن، فاض ألمى، فهاجمتنى نوبة إغماء.

أفقت على يد تلمس جسدى بمعدن بارد، انتفضت وغرقتُ فى نوبة صراخ مستمر، لم ينهها إلا بعض أقراص دسّتها يدٌ فى فمى عنوة، رُحتُ فى نومٍ عميق، استمر لثلاثة أيام، تخللتها نوبات صحيان قصيرة؛ لتناول شىء من الطعام وكثير من الدواء.

عرفنا فيما بعد أننى أعانى من الأنيميا الحادة، لدرجة تتطلب نقل دم، وهذا ما سبّب لى نوبات الصداع وحالات الإغماء.

  وها قد تعافيت، وأريد منك التقدم بشكوى قضائية!!

سألتها عن عنوان الطبيب واسمه لنقوم بهذا الإجراء على الفور، متعهدة بمساندتها.

قالت "سأتقدم بالشكوى ضد أبى"...  

تم نسخ الرابط