ذلـــك اليـــوم
حقًا يوم يحتفى فيه بالمرأة، يوم ربيعى، جَوٌ جميل وهادئ، فالعديدات تلقين فيه وريدات تكريمًا للمرأة؛ حيث وقع عكس ذلك صعدنا سلم العمارة المتواجدة بشارع محمد الخامس بالعاصمة الرباط أو شارع علال بن عبدالله لم أعد أذكر فهما متوازيان متقاربان.
وفى الطابق الأول من العمارة ولجنا أبوابًا دون أن نفهم ماذا هناك، فملنا شمالا حيث وجدنا المرأة الصلبة، بشعرها الأصفر المزركش ببياض الشيب، ترتدى معطفًا وفى رجليها حذاء رياضى تجلس أمام حاسوب، بكلماتها المتقطعة فى البداية.
وبعد هنيهة من الزمن استمرت فى الحديث تسأل عن تكويننا والمهنة المراد امتهانها، الشهادات المحصل عليها أكاديميًا ثم تسترسل ''مستواكما فى اللغة الأجنبية الأولى'' أى اللغة الفرنسية، بعدما أخذت نهج سيرتى الذاتية، تسألنى عن كل التكاوين.
وعن كل ما هو مدرج به وعن مستواى فى اللغة الفرنسية، لتقول ''ترجمى ما تقولينه من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية"، وأنا أتكلم زوت المرأة حاجبيها ونظرت إلىّ بنظرات شزراء، وانهالت علىّ بوابل من الانتقادات المتتالية، نظرت إليها بنظرات تظهر ما يخفيه بالى؛ حيث أفكر بين الفينة والأخرى، فى أخذ نهج سيرتى الذاتية من بين يدَىْ هذه المرأة والانصراف من مكتبها.

وبين تقبُّل الأمر بصدر رحب طمعًا فى الاستفادة من انتقادات ونصائح مَن سبقونا، فاستقر رأيى على أن أجلس وآخذ من خبرة المرأة، فنظرت إلى أختى التي تجلس على الكرسى المقابل، أختى ورفيقتى فى كل خطوة فحتى تكويننا الأكاديمى لايختلف كثيرًا، فأمينة درست السيكولوچيا، وأنا درست القانون، والتمّ الشمل بكلية الآداب فدرسنا الهندسة الاجتماعية سويًا، وحتى لا أخرج عن وقائع ذلك اليوم الذي قابلنا المرأة.
فنظرتى إلى أمينة لم تكن عبثا؛ بل تحمل فى طياتها سيناريوهات اختزلت بنطرة فى تلك- اللحظة التاريخية- هكذا أحببت تسميتها؛ حيث وجدت أمينة التي تجلس بمقابلى فى تركيز، تنظر إلى تلك المرأة وتستمع لما يدور بيننا من حديث، لكن موقفها هنا يبقى واضحًا؛ إذ فى موقف مثل هذا لن تفكر فى الانصراف؛ بل تتعامل بشىء من الليونة، وكذا اللباقة، والكل مختزل فى قوة الشخصية، فترى لو أنى انصرفت هنا لبرهنت عن ضعف شخصيتى، وعدم تقبل الآخر.
حقًا كسبت الرهان فى ذلك اليوم بعدم الانصراف، فشكرنا المدام على كل ما أسدته من نصائح وكذا انتقادات، فتقول المدام مبتسمة "المشكل ليس مشكلكما فقط؛ هناك خلل فى المنظومة". نزلنا الدرج- أختى وأنا- واتجهنا صوب إحدى الأسواق الممتازة القريبة من ذلك المكان ''كارفور'' المسمى سابقا ''لابيل فى''، فاقتنينا مانسد به رَمقنا بعد التعب الذي أحسَسْنا به، فاتجهنا صوب الساحة العمومية ضاحكتين، ساخرتين، نتبادل أطراف الحديث كعادتنا عن واقع التشغيل والبطالة.
جلسنا هناك من أجل الاستمتاع ببعض الدقائق تحت دفء الشمس، وأمامنا صفوف المحتجين، صفوف العاطلين عن العمل، يرددون مختلف شعاراتهم، تركنا المحتجين بعد وقت قصير هناك ومشينا سويًا- أمينة وأنا-، نتجاذب أطراف الحديث، فاتجهنا إلى كورنيش المدينة الذي كنا نجلس إليه فى أحايين كثيرة نحاوره، نستمتع بمنظر الأمواج الهادئة تارة والهائجة تارة أخرى متقلبة كتقلبات حياتنا اليومية نجدد طاقاتنا هناك ويهدأ روع ويأس ناتج عن مواجهة بعض الأصناف البشرية التي نصادفها فى حياتنا اليومية شأن المدام التي حدثتكم عنها آنفًا، نطرح السلبى ونأخذ الإيجابى، نفس آخر يبعث فينا الأمل من جديد، ويحيى فينا روح الإبداع والمثابرة.
فعلا كان يومًا جميلا بعض الشىء بعدما عُدنا فى زحمة الحافلة، رُغم خيبة الأمل التي تلقيناها قبل مصادفة المرأة التي حكيت عنها فى بداية حديثى، عُدنا للبيت فى ذلك المساء فقلت لأمينة سأكتب عن هذه ''المدام''، كما كنت تكلمينها، وبصدر رحب أجابتنى أختى "أجل فكرة جيدة، أكتبى"- أمينة ضاحكة لم تنس موقف المدام. ضحكت وقلت لها: أختى حقًا فكرة تراودنى قبل مدة من الآن لأجمع الحروف المتفرقة، والتي أختزنها بين السطور فى كل حين، والآن حان الوقت لتنزيل الفكرة إلى حيز الوجود آملة أن تكون بداية موفقة. ها أنا ذى كتبت سطورًا وجمعت شمل سطور كانت مفرقة على أرشيف الطموح متمنية أن تروق قارئها، سأطلق العنان لقلمى للسير بعيدًا، سأكتب.



