عاجل
الأربعاء 1 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

قصة الخوف

رسم: عصام طه
رسم: عصام طه

لم يتخيل أحد من العاملين في المصنع أن يشهد هذا الموقف أبدًا، وإذا لم يكن رأوه بأعينهم ما كانوا صدقوه أبدًا.



وتناقلت الألسن الحكاية بأكثر من وصف وتعجبوا أشد العجب، ولكنهم أكدوا أن الظروف الحالية تجبر الصخر على أن ينطق ويثور، ورأى العمال القدامى أنها الدليل على حتمية نجاح ما يدبرون ويخططون له. وأن الجرأة حلت على جميع القلوب، وأن الخوف لم يعد له أي مكان بينهم.

وربما إن رأى أحد غريب المشهد اعتبره عاديًا قد يحدث، فليس بالأمر الغريب أو المستبعد حدوث مشاجرة عنيفة بين عامل ورئيسه، ولكنه كان كذلك بالنسبة لهم إن كان العامل هو سيد المستكين والصامت دائمًا، ولكن الأغرب كان هو صمت الريس حنفي على تجاوزه وتراجعه في قراره، فلذا كانت سابقة بالنسبة لهم وندرة لذيذة.

  وكان طارق صديق سيد في المصنع أكثر العمال سعادة وبهجة بموقفه، فقد كان يعاتبه ليلًا نهارًا على خوفه الشديد من الريس حنفي رئيس العمال، وأنه لا يستطيع أن يرفض له أمرًا، بل أن يناقشه حتى كما يفعل معظم العمال القدامى - وهو منهم وله ألف حق واعتبار مثلهم - إن لم يعجبهم قرار ما، وأن رهبته تلك جعلته يرضخ لجميع قراراته المجحفة، بل وتعنتاته التي زادت بسبب صمته وخنوعه.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

ودائمًا كان سيد ينفي عن نفسه تلك التهمة، مستشهدًا بالعديد من المواقف، وإنه بفضل الله لا يخاف من أي مخلوق، ثم اعترف لطارق في جلسة صفاء بعد يوم طويل في العمل، بأن هناك هاجسًا يقلقه دائمًا في يقظته، ووصل حتى لمنامه وهو خوفه من فقدانه تلك الوظيفة، فهي دون أي مبالغة حياته الحقيقية.

لقد عاش في المصنع أكثر من بيته، إنه من العمال القدامى الذين كبروا في المكان، يحفظ كل ركن وكل شق. إنه لم يعمل في حياته منذ شبابه إلا هنا ولا يجيد أي عمل سوى هذا العمل، وعلى تلك الآلة والحياة تطورت في جنون، وهو ثابت في مكانه والظروف صارت أصعب ومتطلبات سوق العمل- الآن- أصبحت غير متلائمة معه أبدًا من لغات ومهارات. وفى رقبته زوجة وطفلة فلا يستطيع المراهنة بهما، ولذا إن سمي هذا بخوف فهو في هذه الحال مفيد في كبح أي حماقة، يمكن أن تخطر على البال.

ولكن ماذا اختلف في الأمر وجعل من سيد يغير في قناعاته ويتشاجر مع الريس حنفي، ربما كان السبب قرار مجلس الإدارة منذ يومين، الذي أعلنه الريس حنفي بزيادة ساعات العمل دون أي زيادة في العائد المادي، الذي أدى إلى شعوره بطغيان الظلم، وأنه زاد على الحد المتوقع، وربما بسبب زيادة الضغوط عليه من طارق والعمال القدامى، بسبب رفضه مخططهم بتدبير يوم للإضراب عن العمل كرد على قرار مجلس الإدارة المتعنت في حقهم واتهامهم له بالضعف والخنوع، وربما بداية اليوم الغريب فعراكه مع حنفي ليس بأول عركة له في هذا اليوم، فسبقه عراك عنيف مع لص حاول سرقة حقيبة فتاة أمام محطة الحافلات.

شعر كأنها ابنته لذلك تدخل بمنتهى القوة، وقبله وأثناء إفطاره تشاجر مع زوجته حول تعليم ابنته فوجهة نظرها هو ادخار مبلغ محترم من راتبه لإلحاقها في إحدى المدارس الأجنبية، وعندما أخبرها أن راتبه يكفي احتياجاتهم بالكاد اندلعت ملاسنة رهيبة بينهما، تبعها شجار عنيف، ربما تجمع تلك الظروف كانت سبب انفجاره وخروجه عن المعتاد. بعدها أخبر طارق على موافقته واجتمع مع العمال القدامى، وأيدهم في موقفهم، بل واقترح عليهم عدة اقتراحات نالت استحسانهم.

والريس حنفي رجل له مهابة واضحة لا شك في ذلك، وهذا يعود إلى مزاياه الجسدية من طول فارع وجسد ضخم متين عائد لعضلات قوية، وليس لدهون أو سمنة وعينين حادتين كالصقر وهو حازم قوي، وقد تصل قوته في معظم الأحايين للبطش ولكنه أيضًا ذكي وداهية ومتمرس في عمله، وهو يرى أن الشدة مطلوبة وسط هذا الجمع من العمال، وأن أي لين يمكن أن يؤدي بالعمل إلى مصيبة سوداء، وهو مسؤول من الإدارة بتنفيذ خطط العمل، وهو في صفها وينصاع لأوامرها حتى وإن كانت غير عادلة في حق العمال؛ لأنها عينته من أجل حفظ النظام وسير العمل، وهو له سلطات واسعة فيستطيع ودون الرجوع لأحد من الإدارة، فصل أو جزاء من يجرؤ على مخالفة أوامره، وقد فعلها من قبل، وتم التخلص منهم، وكان عددهم قليلًا؛ لأن هيبته لاتزال حائطًا صامدًا أمام أي تمرد أو وقاحة، ولكن هناك استثناء وهو طارق العامل الجديد، الذي لا يهابه ويعترض على أوامره الذي يراها مجحفة ويناقشه بحدة وجرأة، وهو مكبل اليدين هذه المرة لا يستطيع إخضاعه بأي من وسائله المعروفة، بسبب صلة القرابة بينه ورئيس مجلس الإدارة، لذلك يبقى صامتًا أمامه، ولكن كل العمال يلاحظون مدى غليانه وغضبه، وأنه لو انفجر يمكن أن يشق طارق لنصفين بقبضته العارية.

وطارق يعمل مثلهم دون أي امتيازات، ولا يعترض لنفسه فقط بل لصالحهم جميعًا ويساندهم في كل مظلمة حتى حاذ على حب الجميع ماعدا حنفي، الذي اشتكى منه مرارًا للإدارة دون جدوى، وطبعًا زاد في مناكفته بعد القرار الجديد، لذلك قال له بعد أن فاض به، بدل ما تعترض عندي على الفاضي، وتعمل نفسك بطل أمامهم، اعترض فوق في الإدارة عند قريبك.

ولاحظ بعد ذلك الريس حنفي، أن هناك شيئًا ما يدبر بحنكته، اجتماعات طارق بالعمال القدامى، المناقشات الهامسة، الجو مشحون، وتأكد له ذلك بعد انفجار سيد المستكين اليوم في وجهه.. لقد قامت القيامة بالفعل، لذلك تراجع في قراره لأول مرة وانسحب بهدوء من المشهد؛ ليستكشف ما خفي عنه لذا ترصد لسيد في فتره الراحة واصطحبه لغرفته في سرية، بعد حديث ودي طويل، ثم أثنى عليه وعلى وفائه وأخلاقه، ووعده بمكافآت سخية له نتيجة لانضباطه وعمله ثم بنظرته الصارمة هدده بفصل كل من يحاول هتك سير العمل أو النظام أيًا كان شخصه، شعر سيد بأن النظرة تخترق أعماقه وشعر بالهلاك، وتجمد في مكانه، فلكزه حنفي في صدره بنفاد صبر، فانطلق لسانه دون نية مسبقه بكل التفاصيل، ولما انتهى شعر بالاستغراب والاشمئزاز من نفسه. أما حنفي فشعر بالظفر وطلت على وجهه نظرة قاسية غاضبة، وأخبره بلهجة كئيبة أدمت قلبه- وكأنها خنجر مسموم - أنت من اليوم عيني على العمال ولا تخشى شيئًا.

وفي غضون ساعات تم إعلان قرارات عاجلة من الإدارة أفسدت تدبير العمال القدامى وترتيباتهم، وكان من أهمها فصل طارق، الذي كان درع الحماية بالنسبة لهم. ودعهم بنظرات حزينة غاضبة، وبكى سيد بحرقة أثناء الوداع ولأيام طوال، وأيقن أن تردي الظروف بعدها للأسوأ كان هو العقاب المستحق له على خيانته، التي لم تحقق له أي استفادة، بل العكس.

 تمت.   

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز