
الامتحان

قصة: محمد حسين
- وليك نفس تروح تلعب!! ده بدل ما تعيط على خيبتك!! مش مكسوف من نفسك!
هكذا بدأ أبي وصلة توبيخ عنيفة لي يوم امتحان العلوم، الذي جاء أصعب مما تخيل جميع الطلاب. وأمام وصلة التوبيخ التي كنت متأكدًا من أنها ستمتد لعدة دقائق لم يكن أمامي سوى الهروب منها بخيالي، ليس فقط بهدف الهروب ولكن لمحاولة فهم سبب حالة الغضب العارمة التي تملكت من أبي، وجعلته يوبخني بهذا الشكل العنيف.
بدأ اليوم، كغيره من أيام الامتحانات، بمزاج متعكر من النوم المتقطع والقلق الطبيعي لطالب في الصف الثاني الإعدادي، كان لديه طموح بالحصول على مجموع يزيد على 90 بالمئة، رغم أنه لم يجتهد بالقدر الكافي.
خرجت من المنزل في الثامنة صباحًا ومررت بمنزل أحد أصدقائي، ومنه إلى منزل صديق آخر قبل أن نتوجه إلى المدرسة التي تبعد عن المنزل بنحو عشر دقائق سيرًا على الأقدام. وفي الطريق عبِّر كل منا عن قلقه المعتاد من الامتحان، ولكننا حاولنا – في الوقت نفسه – أن نُطمئن بعضنا البعض.

وصلنا إلى المدرسة وقد هدأنا وتناسينا الامتحان وأخذنا نمزح كعادتنا مع بعضنا ومع باقي الزملاء، حتى جاء موعد الامتحان فتوجهنا إلى اللجان، وقد بدأ القلق يتسلل إلينا من جديد.
جلست في اللجنة، وبمجرد أن تسلمت ورقة الأسئلة نظرت بها ومن شدة خوفي رأيتها ضبابية، ولم أستطع تمييز أي كلمة مكتوبة فيها، فأخذت نفسًا عميقًا ونظرت حولي وانتظرت لنحو دقيقتين قبل أن أنظر بها من جديد لأرى الأسئلة بصعوبة.
فتحت ورقة الإجابة، وبدأت أتذكر ما حفظته من المادة، وعندما انتهيت من الإجابة عن السؤال الأول، الذي لم يكن صعبًا، بدأ القلق ينصرف عني.
ويبدو أن القلق افتقدني سريعًا فعاد إليّ مجددًا عندما قرأت السؤال الثاني الذي قررت تأجيل الإجابة عنه عندما وجدته صعبًا.
ولكنني اضطررت للعودة إليه سريعًا بعدما وجدت أن الثالث والرابع أصعب منه بكثير.
قرأت السؤال الثاني بتركيز أكثر وتأكدت أنه صعب فعلًا، وقبل أن أحاول الإجابة عنه نظرت حولي فوجدت الوجوه شاحبة بعضها يتصبب عرقًا - رغم برودة الجو - فأدركت أن المشكلة ليست مشكلتي وحدي فشعرت ببعض الطمأنينة وبدأت في الإجابة عن الأسئلة بقدر ما استطعت.
انتهى الامتحان وخرجت من اللجنة ملتزمًا الصمت، وأنا أترقب رأي زملائي فيه، ويبدو أن بعض الزملاء اتخذوا نفس قراري، فأخذنا ننظر لبعضنا البعض ملتمسين ولو كلمة.
- امتحان ابن ستين (.....).
قالها زميلنا المتفوق أحمد فكري فأسرعنا إليه بخطوات مرتعشة، وكدنا نحتضنه لقطعه حالة الصمت المخيفة، التي التزمنا بها، وقلت له بلهفة:
- امتحان صعب، صح؟
- جدًا. أردت أن أسمع منه المزيد، فقلت له بخبث:
- في مستوى الطالب اللي هو فوق المتوسط ده، صح؟
رد عليّ باستنكار:
- فوق متوسط مين؟! الامتحان ده عايز واحد عبقري، أنا أتحدى أي حد يقول إنه حل كل الأسئلة صح.
أردنا أن نحمل أحمد فكري على الأعناق ونطوف به في جميع أرجاء المدرسة، ولكننا فضَّلنا الخروج والابتعاد عن المدرسة حتى نهدأ.
فجَّر أحمد فكري الثورة المكتومة بداخلنا، فتشجعنا جميعًا وأطلقنا العنان لألسنتنا السليطة، وأخذنا نسب ونلعن فيمن وضع أسئلة الامتحان الذي أجمعنا كلنا على أنه غاية في الصعوبة.
- يلا نروح نلعب كورة.
قرر أحمد فكري أن يلعب دور القائد الملهم للمرة الثانية، في أقل من عشرين دقيقة، فاقترح علينا أن نتناسى الامتحان ونذهب للعب كرة القدم في الساحة التي تقع بالقرب من منزله، فوافقنا دون تفكير ربما لكي نكافئه على كسر حالة الصمت بعد الامتحان.
في طريقنا إلى "ملعب" الكرة لم أستطع أن أنزع من رأسي الامتحان بشكل كامل، إلا أنني عندما بدأت اللعب مع زملائي نسيت الأمر تمامًا، وحتى عندما تذكرته بعد انتهائنا من اللعب تعاملت معه بلا مبالاة وقلت في نفسي: - وإيه يعني؟ الامتحان كان صعبًا علينا كلنا مش أنا لوحدي.
فكرة وقوع البلاء على الجميع أراحت ضميري كثيرًا وجعلتني أهدأ وأشعر وكأن شيئًا لم يحدث، إلا أن أبي كان له رأي مختلف، فما أن وصلت إلى المنزل وأخبرته بما حدث في الامتحان، سألني:
- وإيه اللي أخرَّك لحد دلوقت؟
فتحت على نفسي أبواب الجحيم، دون أن أدري، عندما قلت له:
- أبدًا.. روحنا لعبنا كورة شوية بعد الامتحان.
كان من الطبيعي أن يوبخني أبي ويتهمني بالتقصير في المذاكرة، عندما قلت له إن الامتحان صعب، وعندما علم أنني ذهبت للعب الكرة بعد الامتحان، وجدها فرصة ذهبية لكي يزيد من جرعة التوبيخ، التي استمرت لأكثر من عشرين دقيقة جعلتني أندم على أنني أخبرته الحقيقة، وأندم أكثر على استهتاري وتعاملي مع فشلي بالامتحان بلا مبالاة، فانتهت وصلة توبيخه لي وبدأت وصلة توبيخي لنفسي، التي استمرت حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي.
- إزاي عملت كده؟ إزاي أحل وحش في الامتحان وأروح ألعب كورة عادي كده؟! هو أنا إيه اللي حصل لي؟! أنا غلطت غلطة كبيرة جدًا، مش ممكن أعمل كده تاني، مش ممكن أسامح نفسي بعد اللي عملته ده، هو أنا خلاص بقى عندي لا مبالاة؟!
طوال الليل وأنا أتقلب في سريري، ولا أستطيع أن أنام ساعة واحدة، وأنا أشعر بتأنيب الضمير وألوم نفسي على ما فعلته، وكان من الطبيعي أن أنتهي من باقي الامتحانات، في الأيام التالية، وأعود إلى المنزل فورًا ولا أذهب للعب الكرة حتى لو كان الامتحان سهلًا. وحتى لو ألح عليّ زملائي كي أشاركهم اللعب.
مرت السنوات عليّ بنجاحاتها وإخفاقاتها وأنا أحذر نفسي دائمًا من التعامل مع أي أمر بلا مبالاة مثلما فعلت مع امتحان العلوم، حتى انتهيت من الدراسة الجامعية بكلية التجارة، وبدأت رحلة البحث عن وظيفة، وهي الرحلة التي جعلت مني خبيرًا في المقابلات الشخصية التي فشلت كثيرًا في اجتيازها.
- أهم حاجة عشان تعدي الإنترفيو إنك تبقى واثق في نفسك ومش خايف، لو اللي بيعمل معاك الإنترفيو شافك مُرتبك هيسقَّطك.
سمعت هذه النصيحة كثيرًا من أشخاص أعرفهم، وآخرين لا أعرفهم، عندما حكيت لهم عن فشلي المتكرر في اجتياز المقابلات الشخصية والحصول على وظيفة. فقررت أن أتعامل مع المقابلات الشخصية بلا مبالاة.. ولكنني فشلت.