عاجل
الأربعاء 1 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

فرق شاسع

رسوم:هبة عنايت
رسوم:هبة عنايت

يعقد أبى جلسة ذِكْر نهاية كل شهر عربى.. يحضرها عشرات المشايخ من قريتنا.. تأتى سناء بصحبة أمّها إلى بيتنا لمساعدة أمّى فى تحضير الطعام لهم. توكل لها أمّى مهمة إطعام الطيور وتسمح لها بعد ذلك باللعب فى باحة دارنا الخلفية. حدث أن ذهبت للعب معها ذات مرّة فوبّختنى أمّى وقالت: لم تعد طفلاً، لقد أتممت عامَك العاشر.



فى الشهر التالى أجلسنى أبى إلى جواره طوال جلسة الذِّكْر. كنت أراقب الوقت بمَلل حتى تنتهى الجلسة فأعود إلى اللعب مع سناء مرّة أخرى. لكن سناء كانت قد تسللت إلى داخل الدار خلسة تبحث عنّى. وقفت فى زاوية بعيدة منا، رأيتها مأخوذة بما تراه وتسمعه، تردد ما يقولونه فى سعادة. انتبه لها أحد المشايخ، وهى على هذه الحال، فسُرَّ بها وطلب من أبى أن يضمها معى فى درس القرآن. 

أجد مشقة بالغة فى حفظ القرآن، لكن أبى كان حليمًا معى يعيد ويكرر ولا يمل. حين انضمت سناء إلى الدرس راحت تحفظ القرآن من أبى من المرة الأولى وبالطريقة الصحيحة فصار أبى يعنفنى ويفقد صبره سريعًا. ذات مرة سمعته يخبر أمّى وكأنه يلومها: ابنة عامل البناء الأمّىّ تحفظ القرآن أفضل من ابن الشيخ صفوان!!.. ترد أمّى وكأنها تسترضيه: لا يزال صغيرًا، أمامه العمر كاملاً يحفظ ويرتل ويجوّد.. لا يوافقها أبى ويقول: وهى أيضًا صغيرة مثله ومع ذلك تسبقه فى حفظ القرآن. إنها فى سورة الدخان وهو لم يزل فى صورة النازعات.. تضرب أمّى على صدرها لا تصدق ماسمعته..

 

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

لم أكن أعرف كم تبعد سورة الدخان عن سورة النازعات ولكن عندما ضربت أمّى على صدرها عرفت أن الفرق شاسع. لكنى مع ذلك لم أفهم ماذا يضيرنى إن سبقتنى سناء أو تأخرت عنّى. لم يزعجنى أن تسبقنى، ما أزعجنى هو غضب أبى منّى طوال الوقت. سمعت أمّى تحدّثه ذات مرّة، تطلب منه ألا تحضر سناء درس القرآن معى.. انقبض قلبى.. لن أحتمل غيابها عن الدرس.. إننى أحب سماع القرآن منها, تتلوه بطريقة تشعرنى أننى أيضًا يمكننى أن أحفظه.. أمّا أبى فيتلوه بطريقه تجعلنى لا أفكر إلا فى فشلى وخيبتى.. رد أبى مستنكرًا وقال: وهل أحرم نفسى ثواب أجرها لأن ابنك بليد. كما أن الشيخ عبد الله طلب منّى أن أحفظها القرآن ومقامه عندى كبير لا أرد له طلبًا أبدًا.

هدأ قلبى، لكن أمّى لم تهدأ. سمعتها تخبر خالتي: إذا استمر غضب الشيخ صفوان سأطلب من أمّها ألا ترسل ابنتها مرّة أخرى إلى الدرس وإن سألها الشيخ صفوان تزعم أن سناء لم تعد ترغب فى حفظ القرآن.. حينها عرفت أن حضور سناء الدرس مرهون باللحاق بها فيما تحفظ. اقتطعت من أوقات لعبى كى أحفظ ما يملى علىَّ. أظهرت تقدمًا لاحظه أبى لكنه لم يسعد به، "لا يزال الفرق بينهما شاسعًا"، هكذا أخبر أمى. قالت له: أخبرتك ألا تسمح لها بحضور الدرس مرّة أخرى, سيحبط ابنك بسببها ولن يستمر تحسُّنه فى الحفظ طويلاً.

صمت أبى هذه المرّة ولم يعقب.. قبيل الدرس، بينما كنا نتتظر أبى، قلت لسناء: تريّثى حتى ألحق بك. 

سألتنى: لماذا؟

 أجبتها: الفرق بيننا شاسع.

  سألتنى مرّة أخرى: هل يضربك أبوك؟

 شعرت بالحرج وقلت: لم يفعل.. أنا أطلب هذا الطلب ليس لأجلى؛ بل لأجلك.

 لم تفهم ما أقصده. سألتنى بعينيها أن أستزيد فى الشرح، لكن أبى كان قد دخل. حين طلب منها أبى التسميع. توقفت أكثر من مرّة فبدا على وجهه الارتياح وعلى وجهى أيضًا وأخبرها بالإعادة المرّة القادمة. أمّا أنا فتلوت وردى كاملاً دون توقف.. المرات التي تلت هذه المرّة، ظلت سناء تتلعثم وتتوقف وأبى يصحح لها ويطلب منها الإعادة، وكنت أنا أبذل كل جهدى لتقليل الفارق بيننا. قال أبى لأمى: سناء صارت بليدة جدًا بينما ابننا صار يحفظ القرآن أفضل منها.

 قالت أمى: هل سبقها؟

  قال: ليس بعد لكنه سيفعل إن استمر الوضع على ما هو عليه.

  قالت أمّى بكل ثقة: حتمًا سيستمر، فهى لن تتمكن أبدًا من أن تسبق ابن الشيخ صفوان مرة ثانية.

سألتنى ذات مرّة: لماذا لا تطعمون الفقراء كما تطعمون المشايخ؟ 

قلت: هم ضيوفنا ووجب إكرامهم. 

قالت  هناك الكثير من البطون الجائعة الأولى إطعامها من إطعام هؤلاء الشيوخ.

قلت: لا دخل لى بهذا الأمر.

 قالت ساخرة: طبعًا لا دخل لك.

 وجّهتْ لى صفعة ورحلت كأنها لم تفعل شيئًا.. أخبرتُ أبى بما قالته سناء وكأنه رأيى وليس رأيها.. غضب واتهمنى أننى أريد أن أمنع ذكر الله من بيتنا.. لحقت بسناء فى سورة المؤمنين ثم سبقتها لسورة الكهف. واصلت التقدم لسورة يوسف بينما هى خلال ذلك تقدمت سورة واحدة فقط.. كانت سعادة أبى بالغة بى لكننى لم أسعد بنفسى ولم أفهم لِمَ تخلفت سناء عنّى.. سمعت أبى يخبر أمّى أنه لن يسمح لسناء بحضور درس القرآن مرّة أخرى. صعقت مما سمعت. سألته أمّى عن السبب. قال: أهدر وقتى معها دون جدوَى والفرق بينها وبين ابننا صار شاسعًا جدًا.. استحسنت أمّى الفكرة فلم تعد سناء تأتى إلى الدرس صارت فقط تأتى بصحبة أمّها مرة واحدة نهاية كل شهر عربى. ذات مرة لحقت بها وهى تتخلف عن أمّها بخطوات لثقل ما تحمل من بواقى الطعام. اعتذرت منها على ما لحق بها بسببى. ابتسمت وقالت: لا تشعر بالذنب فأنا معك الآن فى سورة يوسف.

  قلت مندهشًا: حقًا! لكن كيف؟!

 قالت: بينما الشيخ صفوان يقوم بالقراءة لك، كنت أردد خلفه فى صمت وحين أرجع إلى البيت أعيد القراءة مرة أخرى حتى أتم الحفظ. وعندما كنت تقوم بالتسميع كنت أيضًا أفعل الأمر نفسه. 

قلت وأنا لا أزال مندهشًا: لماذا إذن أخفيتى الأمر؟!

 قالت: لم أكن لأجعل الشيخ صفوان يعلم بالأمر ليس لأجلى؛ بل لأجلك.

 استبطأتها أمّها ونادتها تحثها على الإسراع. قالت: لا عليك سأكمل حفظ القرآن مع شيخ آخر, شقت سناء طريقها فى الظلام نحو أمّها وقلت لنفسى: حتمًا ستفعلين وسيكون ذلك سريعًا جدًا أمّا أنا فسيتطلب الأمر وقتًا طويلاً..   

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز