الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

الحـوالــــــة

رسم: جمال هلال
رسم: جمال هلال

" اصبر يا (أحمد)".... "اصبر يا ولد".... "نعم يا (عبدالله) أسمعك... كيف حالك؟! "..... "طمئِنّى عليك فى السفر".... "اصبر ياشش (أحمد) وسوف أعطيك الهاتف لِتُكلّمه"..... قالت الأم وهى ممسكة بالهاتف وصغيرتها (ريهام) على حضنها ترضع من ثديها الأيسر..... "سوف يغلق المكالمة دون أن أحدّثه يا أمى "قال( أحمد) وهو يسحب ذيل جلباب أمّه، فانتبهت الأم إلى ضجة الصغير فصفعته على وجهه..... صرخ الطفل من فرط الصفعة متوجهًا نحو حجرة المنزل الأخرى والتي تفصلها عن الكائنة صالةٌ طويلة وضيقة تنتهى بالمطبخ والحمّام، فى الوقت الذي علا فيه صوت الرضيعة بالبكاء؛ بعدما سحبت الأم ثديَها من فمِها.... عاودت الأم ملء فم الصغيرة بالثدى وأكملت: "أَعلمُ تمامًا يا (عبدالله) ما نسببه لك من إزعاجٍ فى كل مرّة.... أعانك الله على الغربة يا ولدى" قالت الأم بأسلوب تحاول فيه السيطرة على أعصابها. "الحمد لله يا أمّى.... سيكون الأمر على ما يرام" قال (عبدالله) متنهدًا وكأنه أراد أن يكمل شيئًا أو أن يبث ما بقلبه من معضلات حينما قالت الأم: "ونحن يا (عبدالله) الحمد لله بخير... كل شىءٍ على ما يرام.... والخير عندنا بزيادة لا تقلق!!" هكذا ردت الأم بأسلوب الشفقة الذي لن يخفى على ابنها والذي تستحثه فيه أن يُرفقَ حوالةً قد طال انتظارها!!!.... بَلعَ (عبدالله) ريقَهُ وهو ينظر إلى أوراقه التي أُرفِقت له منذ يومين؛ لتَخلّى الشركة عن عملِهِ معها، وأنه مفصول عن العمل تمامًا بعدما أثبت خطأَ مسؤولٍ أعلى منه مكانةً وأحرجهُ أمامَ العمال!!.... "آهٍ... لو أننى التزمتُ الصمتَ مثل الآخرين!! " هكذا قال المسافر محدثًا نفسه وأسنانه تجزُّ على شفته السفلى. ... "(عبدالله).... هل تسمعنى؟!!" سألت الأم لتلفت انتباهه منه ومن فكره.."نعم.... نعم يا أمّى... إننى أسمعك" وتنهد تنهيدة قصيرة وحاول أن يغير الموضوع "وكيف حال أبى؟!! ماذا عن صحته؟!! اشتقت لسماع صوت هذا العجوز... أعطنى إياه يا أمّى" قال (عبدالله). تنهدت الأم إعلانًا منها بخبرٍ سيئ ثم قالت: "لم أنوِ أن أخبرك.... لكن هكذا هى الدنيا يا ولدى... عمّك (حسن) فى ذمة الله ، وأبوك هناك فى العزاء".... ثم استطردت: "هكذا حال الدنيا.... هكذا حال الدنيا يا ولدى.... رحمة الله عليه كان يعاملك كابنه الذي لم يُرزق به.... كان يعاملك كأخ لبناته يا (عبدالله).... جعل الله مثواك الجنة يا شيخ (حسن)" قالت الأم و(عبدالله) يسمع كلماتها ويسمع الخبر ولم يحرك له ساكنًا كأن أصعب الأخبار لا شىء بجوار خطبه هذا الذي أعجزه عن التفكير، حتى لو كان سماع خبر وفاة عمّه الذي ربّاه منذ الصغر!!... "(عبدالله) لقد صارت (سلمى) عروسًا جميلةً!! كبُرت الفتاة وتكوَّرت نهداها.... وتشتاق أيضًا إلى نزول عشيقها" ضحكت الأم وضحك المسافر رُغم كل ما هو فيه؛ ربما لذكر (سلمى)!!..... "(عبدالله)  هل تتذكر وصية عمّك حسن؟!!" قالت الأم مداعبةً روح ابنها" رحمة الله عليه، لم يطل عمره ليشهد عُرسكما"... قالت الأم ثم أكملت: "اشتقنا إليك والله يا (عبدالله)، ولولا ضيق الحال ما قبلنا غربتك!! لكن الظروف.... الظروف هى التي جعلتنا نسعى نحن إليها" تنهد (عبدالله) بعد سماع كلام أمّه؛ لعلمه أنها قد أخذت الإذن الآن بنفسها لتخبره بسوء حالتهم التي تزيد يومًا بعد يوم!!".... انتبهت الأم إلى رضيعتها التي لفظت ثديها إعلانًا منها بالشبع، فوضعته مكانه تحت ثيابها ورتبت على ظهْر الرضيعة لتساعدها على استقطاب النوم ثم قالت: "الأسبوع الماضى تعب عمّك، فذهبنا به إلى المستشفى الحكومى؛ بعدما طلب منا المستشفى الخاص خمسة آلاف تحت الحساب، قبل أن تشرع حتى فى تحديد سبب مرضه!!!!.... خمسة آلاف يا (عبدالله)!!! أنَّى لنا يا ولدى بهذا المبلغ!!!... فما كان لنا إلّا أن ذهبنا به إلى المستشفى الحكومى لحَيّنا.... وهناك- وتنهدت الأم- أنت تعلم يا (عبدالله) هناك ترى أعداد الموتى أكثر من الناجين؛ بسبب سوء العناية وقلة التجهيزات!!!.... لم يكن لنا خيارٌ آخر، العين بصيرة واليد قصيرة... الحمد لله... كل ما كتبه الله لنا خير..... - ثم تنهدت مرّة أخرى- الله يرحمك يا شيخ (حسن).... الله يرحمك يا أبا (رحاب)".... "معى يا (عبدالله)؟!!... هل تسمعنى؟!!" سألت الأم. "نعم يا أمّى أسمعكِ.... رحمة الله عليك يا عمّى" قال (عبدالله) بصوتٍ شارد ثم استكمل سريعًا: "وكيف حال بيت عمّى (حسن) الآن يا أمّى؟!! سأل (عبدالله)... وأجابت الأم: "بيت عمّك (حسن) أم (سلمى) بنت عمّك (حسن)؟!!" ضحكت الأم وأجبرته على الضحك.. "اللهم قرّب كل بعيد.... أمنيتى أن أراك عريسًا فى بيتك يا (عبدالله)" قالت الأم..... "تعال يا (أحمد)..... حقك علىَّ"...... "لقد كبر (أحمد) يا (عبدالله) وأصبحت تؤلمه الكلمة أكثر من الضرب والصفع!!" ضحكت الأم وهى تنظر إلى (أحمد) الذي تكوّر فى جلبابه البنى دائمًا من لعبه فى الشارع، وهو يشيح وجهه بعيدًا عن أمّه رافضًا صلحها بعد فعلتها هذه معه أمام أخيه الأكبر- ولو كان حتى على الهاتف-!!...." طبعًا يا أمّى.... وسوف يصير رجلًا عظيمًا" قال (عبدالله) وهو يعيد تقليب أوراقه المنثورة أمامه بعدما أطاحها من داخل مظروفها الأحمر الذي أُرفقت بداخله، وهو يفكر فيما سوف يفعل!!! أيرجع بعد هذا إلى الوطن بقلة الحيلة وكسر الخاطر؟!! أيذهب حلمه وحلم أسرته هكذا فى لمحة عين؟!! أتذوب كل طموحاته فى كأس الظروف الذي لا يرحم ولا يقبل الأعذار؟!! ولكن أين يذهب؟!! إنه اقترض حتى ثمَن التأشيرة ظنًّا منه أنه قد ذهب إلى بلاد الرغد والحياة!!! وبغض النظر عن الجانب المادى- وهو المهم الآن- أين هو الآن من قسَمه الذي عاهد به أباه على العمل لآخر الأنفاس لرفع مستوى معيشة الأسرة؛ حينما رأى دموع أبيه لأول مرّة إثر بترِ ساقه بسبب الفقر ومرض السّكرى اللعين؟!!...... "معك (أحمد) يا (عبدالله)..... خذ يا (أحمد)" قالت الأم وهى تضع الهاتف فى يد (أحمد) وتربت على ظهره.... أعاد الكبير صحة صوته وقال فى نَفَسٍ واحد: "وكيف الحال يا بطل الأسرة القادم؟!!" قالها بنوع من استثارة الحماسة كان يداعبه به منذ نعومة أظافره قبل أن يسافر.... "الحمد.... الحمد لله" بلع الصغير ريقه وصوته ثقيل وقال: "اشتقتُ إليك كثيرًا يا (عبدالله)" وانفجر (أحمد) فى البكاء، وانهمرت الدموع من عينيه، ووقف الكلام فى حنجرته، حتى لم يستطع أن يكمل حرفًا!!! كان صوتُه ينبع من شكوى مدفونة بأعماقِه....زادها اشتياقه لأخيه وأشعلها سماعه للصوت الذي قد غاب- لأول مرّة- عن الدار لما يزيد على أربعة أشهُر..... قبَّلت الأمُّ طفلها الصغير بعدما وضعت (ريهام) النائمة فى مكان نومها الكائن بين زاويتى جدار الغرفة، وأخذت منه الهاتف الذي ألقاه فى يدها وذهب صارخًا إلى الحجرة الأخرى مرةً أخرى!!.... "نعم يا (عبدالله).... (عبدالله).... يا الله لقد نَفَدَ الرصيدُ مرّةً أخرى"..... "(أحمد).... يا (أحمد).... تعال هنا يا ولد...".. جاء أحمد وعيناه حمراوتات وفى صوته شهقة مسموعة" نعم...- ثم شهق مرتين-  نعم... نعم يا أمّى"... "اذهب إلى العم (سيد) البقال واشترى لنا كيلو سكر بسعر سبعة جنيهات للكيلو، اسمه سكر "النصر" أمّا سكر "الفاخر" فلا؛ فهو بثمانية جنيهات ونصف، واشترى لك حلوى بنصف جنيه.... نصف جنيه فقط يا أحمد" قالت الأم وهى تردد وصية السكر فى مرّة للصغير. "والنقود يا أمى؟!!" استفسر الصغير وهو يعرف الإجابة..." أخبره أن يضيف ذلك على الحساب... سوف يرفق لنا (عبدالله) الحوالة قريبًا، وسوف نسدّد جميع ما للعم (سيد) دفعةً واحدة" قالت الأم بصوت يشوبه الخوف الذي اختلط بالأمل، حينما ركض الصغير نحو الباب ثم عاد كأنه تذكر شيئًا وذهب ناحية (ريهام) وطبع على خدّها الأيسر قبلةً هادئة؛ لِئلّا يوقظها من نومها ثم انطلق ناحية الشارع...... حدثت الأم نفسها "متى سوف تبعث الحوالة يا (عبدالله)؟!! لقد طال انتظارنا إليها يا ولدى" وتنهدت تنهيدةً طويلة هذه المرّة، ثم قالت بصوتٍ خافتٍ مسموع: "غدًا- بإذن الله- سيكون أفضل".

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

تم نسخ الرابط