على طريق الحب
بين دهاليز الحياة ودروبها، نمتطى صهوة علاقات لا نعلم مَدَى صدقها، لتمُرَّ علينا مواقف وأحداث تكشف لنا عن حقيقتها، فجميعنا دخل أنفاق الخيانة والغدر وتجوّل فى حدائق الصداقة وجنات العشق والحب، لكن فى النهاية لم يحظ كل واحد منا برفيق العمر الذي يسير معه إلى اللا نهاية؛ حيث لا شىء موجود غير الحب النابض على حافة العمر يحتوى الطرفين وينسيهما آلام وجروح الحياة...
أطل وجْهُ الشمس الجبلية الساحر من بين السحاب الكثيف ليمسح على ظهْر غابات الصنوبر والزيتون المتجذرة فى تلك الأرض الطيبة منذ زمن بعيد، زمن لا يزال شاهدًا على قصة حبهما السرمدى الجميل. انتهى جميل وجميلة من بيع الخضار للتجار فى سوق القرية كعادتهما منذ زواجهما؛ حيث يكسبان قوتهما من خلال ما تجود به حديقتهما الصغيرة، يبيعان الغلة قبيل فَجر كل جمعة ثم يرجعان إلى بيتهما الصغير الدافئ.
تمشى جميلة ممسكة أسفل ظهرها الذي أنهكه التعب، بينما يسير جميل فى هيبة متكئًا على عصاه، وفجأة تنهدت جميلة وقالت فى حياء:

- أتذكر هذا الطريق؟!، لقد كان شاهدًا على أول لقاء بيننا قبل أربعين سنة.
- نعم أتذكر ذلك جيدًا يا جميلة، يومها رأيت فتاة حسناء تحمل حزمة من الحطب فوق ظهرها وقد أنهكها التعب وحَرُّ الصيف، اقتربت منك وحملتها عنك حتى اقتربنا من منزلك، وما شدنى إليك وقتها هو حياؤك وخجلك.
تابع الزوجان السير وجميلة تبتسم ابتسامة خجل من كلام زوجها المعسول الذي فتح عليها نوافذ الذكريات، فأصبحت تسرح بعقلها فى عوالم الماضى الجميل، فكان كل حَجَر وكل شجيرة على قارعة الطريق يحملان حكاية من حكايات حبهما العذرى، وفجأة تستيقظ مشاعر الأنوثة النائمة بين أحضان التجاعيد لتحرّر لسانها المكبل بقيود الحياء:
- عزيزى جميل؛ صحيح أنى لا أشك فى صدق حبك وإخلاصك لى، لكن لماذا لم تُعبر لى عن حبك يومًا بكلمات الغزَل التي يقولها العاشق لمحبوبته، فأنا امرأة والمرأة تحب مَن يطرب أذنها بجميل الكلام بين الفينة والأخرى.
نظر إليها جميل وانفجر ضاحكًا من قولها بضحكات متقاطعة امتزجت مع سعال شديد- فهو يعانى المرض منذ خمس سنوات- ثم قال:
- صحيح يا عزيزتى، ربما لست بارعًا فى تأليف كلمات العشق الرنانة، لكن لكل شخص طريقته فى التعبير عن حبه، فأنا تجاوزت سطحية الأقوال إلى صدق الأفعال- وأخذ يعد عليها بعض المواقف التي مرّت عليهما، وهى فى كل مرة تحرك رأسَها فى خجل كتأكيد منها على صدق كلامه- أتذكرين يوم كان الجَوُّ باردًا ونسيت معطفك فى البيت، ألم أنزع معطفى ووضعته عليك لحمايتك من البرد؟!، أتذكرين عندما التوى كاحلك، ألم أحملك طول الطريق فوق ظهرى إلى البيت؟!، ويوم هاجمتنا الذئاب فى طريق ذهابنا إلى السوق لبيع بعض الخرفان، ألم أقم بدفعك وإبعادك عنهم وقمت بمواجهتهم وحدى ورُغم أنهم أخذوا كل شىء إلاّ أننى كنت مسرورًا جدًا وقلت لك إن المهم هو سلامتك؟!، ومواقف أخرى كثيرة مرّت علينا يا جميلة كنت لك فيها سندًا متينًا، أليس هذا هو الحب؟.
- والله صدقت يا جميل، فأنت أحببتنى بإخلاص وأشعرتنى بالأمان، واحتوانى قلبك بكل عيوبى، فماذا تفعل المرأة بجميل الكلام إن لم تصدّقه المواقف.
وبعد بضعة أمتار ظهر سقف منزل جميل وجميلة بين الأشجار الكثيفة، سقف احتضن حُبًا حقيقيًا جسّدته الأحداث بعيدًا عن ترانيم الغزَل الجافة، سقف بيت شهد الإخلاص والمودة والرحمة ليثبت بَعدها أن الحب ليس شعرًا فقط وأن قصصه قد لا يؤرخها التاريخ فى كتب يتسلى بها العشاق؛ إنما قد يحتويها طريق بين بيت بسيط وسوق، يشهد عليها كل حَجَر وشجر فيرويانها للعابرين على مَرّ العصور.



