الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

سارق الروح

رسم: عصام طه
رسم: عصام طه

لملمتْ خُصلة شَعرها العنقودى الأسْوَد، التي تشابكت مع نظيراتها، بلا اكتراث، مُعَبِرَةً عن غَضْبَةِ الزّمن على جَمال وجهٍ أوشَك على الرحيل. غزا الشيبُ مفرقَ رأسها، وتوغل على استحياءٍ. لملمت خُصْلاتِهَا، وأحكمت وثاقها مَعْقُوَفًة خلف رأسها، كأنما تخشى عليها من الفِرار مثلما فعلت سنو عمرها الهاربات خلف جَمالها؛ فكشفت بذلك عن جبهتها التي عَلَّتْهَا خطوط الزّمن الغادر، وهى تدندن بأغنية شعبية دارجة لمؤلفٍ مجهول، لا تتناسب وأَشْهُرِ عمرها التي تخطت الخمسة بعد الستين، وما لبثت أن تدلت يداها النحيلتان فأحكمتا وثاق ثوبها الوردى، الذي استعار لونه من لون خديها، اللذين مازالا مُخَضَبَيِنِ بلون ورد حديقتها. أحكمته حول خصرها؛ فبدت سمات عودها النحيل مُبشرةً بملامح أنوثة تحتضر.

انزوت كجنينٍ التف حول نفسه، متشبثًا برحم أمّه على كرسى عريضٍ لِصْقَ سريرها الذي وشى استواؤه بأن صاحبته لم تقربه طيلة ليلها. أضناها البحث، وبدا التوتر على ملامحها، وهمهماتها العصبية غير المفهومة عن شىء فُقِد، ولم تهدأ إلا بَعد أن استقرت يداها على شنطتها الصغيرة أسفل الكرسى، والتي حرصت ألا تفارقها منذ زمنٍ غير قصير؛ خِزانة أسرار ما انقضى من عُمْر، ومستقبل ما تبقى من أيام؛ فبدا الارتياح القَلِق على ملامحها. تفقدتها مرّات عِدَّة فى دقائق معدودات، وباتت تَرْقُبُ ما حولها بعينين ذائغتين. أخرجت من خِزَانَتِها الصغيرة مِرآةً صغيرة، دائرية الشكل؛ فبدا وجهها القمرى، وشفتاها اللتان شكلتا معًا سورًا واقيًا للآلئ يبدو سَناها بين الحين والحين كلما مسّهما  ضوءٌ خاطف؛ فبدا الوجه القمرى الهَرِم وقد جلله ليل تهادَى على كتفيها، واضعًا لمسته الأخيرة للوحة جَمال أسلس قياده للرحيل.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

اقتربت منها مُنَى، وقد مسّتها رعشةٌ، وزلزل كيانها خوفٌ، ورعبٌ كبيران، وهمّت بالانصراف؛ فاعتراها ندم شديد، وانغرست قدماها بالأرض كَنَبْتَةٍ تشعبت جذورها بالأرض، لا تهزها أنواءُ الزّمن. وتواترت على ذهنها أسئلة لاذعة:

-هل هانت على إلى هذا الحد؟

-هل كانت تتركنى لو بدّل الزّمن مكانينا؟

-هل هذا هو ما تَشَرَّبْتُهُ منها طيلة أعوامى التي تخطت الأربعين؟

وألحّت عليها أفكارٌ، ومشاعرٌ شتّى، وأنبتها نفسها الحيرى:

-ما لهذا الزمن اللعين يعبث بذاكرتنا، وملامحنا، ويُغَير أجمل ما فينا؟

فتسللت دمعاتها برفقٍ، رُغمًا عنها، لتجد من زاويتَىْ فمها الذي بات يئن متاعًا، ومُسْتَقَرًا لها؛ فاستعصمت بكل ما حفظته من آىِّ الذّكر الحكيم، وما وعته ذاكرتها من عادات، وتقاليد، ومعتقدات واقيات من الانهيار، أو التخاذل؛ فاعتدلت، ومسحت دمعاتها التي فاضت على صدرها بطرف ثوبها، واحتضنتها برفقٍ، ثم ربَتت على ظهرها، وقَبَّلَتْ رأسَها، وقدميها، وغزت ذاكرتها تلك التفاصيل الصغيرة، التي ما فتئت تخرج من سِنِى عُمرها الفائت، وقد تمثلت لها كرباجًا يلذعها على نسيانها من السنين، والأشهُرِ عددًا؛ بل والهروب منها الآن، لولا نظرات عينيها الذاهلتين، التي طوقتها من كل جانبٍ، ومنعتها من فعلتها. وتوالت صور طفولتها، وصباها على رأسها الصغير حتى غابت عن الوعى، وسقطت كثور مربوطٍ  فى ساقية، أنهكه الدوران فى دائرة لا يعلم بدايتها من نهايتها، وقد خرج فى النهاية منها خالى الوفاض. هوَت بَعد أن أيقنت أنها لم تحصد من سعيها فى الغربة خارج البلاد وراء المال سوى التعب، وفقدان الكثير من عاداتها، وتقاليدها، وما تشرّبته من أمّها من مشاعر لملمتهم بها هى وأخواتها، بعد وفاة أبيهن.

 

استعادت وعيها بعد فترة لا تعلم قَصُرَت، أمْ طالت، وشعرت أن ما مَرَّ بها كان كجبل أثقل كاهلها، ولم تستطع حمله؛ فغابت عن الوعى، وفسّرته بأنه حيلة من عقلها للهروب من خجلها، واكتفت بهذا التفسير حتى لا تقع فريسة لحصار الأفكار، والتفسيرات مرّة أخرى.

رفعت "أمينة" رأسها؛ فالتقت نظراتهما لحظاتٍ خاطفة، ثم عادا للوجود ثانيةً بعدما كادا أن يهلكا. شعرت مُنى فى لحظات غيابها، أو قُلْ غيبوبتها، أنها تَهْوَى فى قرارٍ سحيق، تُنَادِى، ويتردد صدى صوتها، وما من مُجِيب. خلفت نظرات أمّها الشاردة فى قلبها أنينًا كَبَّلَ لسانيهما، وأطلق العنان للدموع بلا حسيب.

شردت"أمينة" مرّة ثانية، وأشاحت بوجهها بعيدًا، وجعلت توزع نظراتها الحيرَى على زوايا الحجرة، كأنها لم ترها من قبل، أو كأنها تبحث عن شىء لا تعرف كُنْهَهُ. احتوتها "مُنى" بين ذراعيها بحنانٍ لم تشعر به من قبل، أو ربما لم تفكر به. غسلت الدموع وجهها، وبللت رأس أمّها؛ فتهدّج صوتها، وهى تعصرها بحنان غريزى:

-لِمَ تركتٍ البيت يا أمّاه؟ لِمَ؟

فهوت على خدّها بصفعةٍ مزّقت صمت الحجرة الذي أضفى عليها كآبةً مضاعفة، ثم أشاحت بوجهها باسمة، ضاحكةً نحو باب الحجرة، وتدرجت طبقات صوتها، كأن شيئًا لم يحدث؛ فتهدّج صوتها حتى كادت تختنق:

-لِمَ ففعلت هذا يا أمّاه؟ أنا مُنى.. بنتك.

لملمت نظراتها الحيرَى، ومسحت وجه مُنى، وكامل هيئتها، فى دهشة، مرّاتٍ عِدَّة، ثم أشاحت بوجهها نحو الباب مرّة أخرى. حاولت النهوض؛ فلم تقوَ؛ تكأكأت على نفسها، ثم اعتدلت، وتحاملت على نفسها، ومِرْفَقِ ابنتها، واتجهت صَوْبَ الباب مُتَمْتِمَةً بكلماتٍ غير مفهومة، وقد تلطخ جانبا فمها بزغبٍ أبيض؛ فارتمت"مُنى" على قدميها، وساد جَوَّ الغرفةِ صمتٌ رهيبٌ، بعد الأنينِ، وعويل النساء، بعدما سقطت من على الجِدار صورة لأُمٍّ تُلَمْلِمَ أبناءها بابتسامة، وقد تجمدت دمعتان على خديها.

تم نسخ الرابط