وصية فرعَون الأخيرة
فى هذه الليلة، عاد فِرْعَوْنُ من جديد.
كان يعرف أنه سيعود؛ لأنه لم يمت أصلاً؛ بل جرع تلك الوصفة السحرية التي جهزها وحضرها طبيبه وكاهنه الأكبر، والذي أمَرَ بعدم تحنيطه حتى لا يخرجوا أحشاءه ويضعوها فى الأوعية المقدسة فيموت بالفعل!
لا يدرى كم من القرون لبث، لكن صوت حفريات علماء الآثار كان كفيلًا بأن يوقظ أى فِرْعَوْن نائم فى تربته فى حاله.
قام وفتح التابوت ونزع عن نفسه اللفائف البيضاء ليفتح باب المقبرة ويخرج إلى الناس منتظرًا منهم التهليل والفرح والهتاف باسم الرَّبّ المَعبود، والسجود من فرط المفاجأة المدهشة المذهلة.

لكن لم يحدث أى شىء من هذا بالطبع، فقد خرج الفِرْعَوْنُ فى زماننا هذا، وفى وسط جبانات سقارة، من مقبرة لم تكتشف بَعْدُ؛ ليجد نفسَه وسط الصحراء عاريًا وسط مجموعة من العمال الصعايدة، الذي ما أن رآه أحدُهم حتى صرخ فى جنون:
- ماذا تفعل أيها الرجل المختل، هل فقدت عقلك لتمشى هكذا وسط الصحراء؟
وضرب آخر كفًا على كف، وهو يجلس القرفصاء ويسحب نفَسًا عميقًا من لفافة التبغ ويقول فى فطنة ونبوغ:
- دعوه، لعل له زوجة حمقاء مُملة كزوجتى، أفقدته عقله فخرج لنا بهذا الحال.
اقترب منهم فِرْعَوْنُ وأشار لهم بسبابته فى صرامة آمرة:
- هيا، قوموا واسجدوا وقدّموا فروضَ الولاء والطاعة.
كان كلامه باللغة المصرية القديمة التي لم يفهمها أحدٌ، فنظر كُلُّ منهم إلى الآخر قبل أن ينفجروا ضاحكين، ويسعل أحدهم فى قوة ليخرج رواسب التبغ من صدره ويقول فى سخرية:
- اذهب لحالك أيها المعتوه، اذهب من هنا قبل أن أقوم لك.
ثم صرخ فجأة:
- هَيّا!
لم يفهم فِرْعَوْنُ كلمة مما قيلت، فرمقهم بنظرة المَلك الغاضب الذي عصاه عبيده، واتجه إلى المتكلم ليلطمه على وجهه فى عنف، قبل أن يتجه إلى الآخرين الذين فرّوا من أمامه فى سرعة وأحدهم يصرخ فى هستيريا:
- يا لك من أبله ابن أبله!
وانطلقوا هاربين، ليقف وحده عاريًا فى الصحراء، واضعًا يديه وسط خصره، مستغربًا الموقف العجيب.
أين الناس؟
أين القصر والخدم وكبير الكهنة؟
أهذه هى الحياة الآخرة؟!
مستحيل؛ لسبب واحد…
أن لا أحد من هؤلاء الحمقى يكون (أنوبيس) إله الموت، ولا (أوزوريس) إله البعث والحساب.
ترجَّل عبر الصحراء، وظل ماشيًا لفترة، حتى وجد نفسَه على الطريق العام، وشاهد لأول مرّة تلك العربات المعدنية العجيبة المليئة بالأضواء المبهرجة، والتي تحمل أناسًا بداخلها وتتحرك هكذا بلا خيول!
مشهد عجيب...
عَبَرَ الطريقَ ليجد مقهَى صغيرًا يكتظ برواده، فاقتحمه عاريًا فى عظمة وكبرياء، فصرخ الناسُ فى ذعر وهتف أعقلهم بأن هاتوا جلبابًا لهذا المجنون ليستر نفسَه.
ألبسوه الجلباب، وأجلسوه على كرسى خشبى، فجلس فى عظمة، وأمرهم مجددًا أن يسجدوا لفِرْعَوْن فى طاعة، وغضب بشدة حينما عصى الناسُ الأمرَ.
طلب له أحدُهم سحلب حتى يهدأ، وجلس إليه يسأله كثيرًا حتى ضاق صدرُه فقام، وخرج من المكان.
لبث على حاله تلك شهورًا، حتى اعتاد الناس واعتادوه، وصار زبونًا دائمًا فى المقهى، يأتى فيقدم له أولادُ الحلال الطعامَ والشرابَ، فيتناولهما فى فخامة، ويذهب ليلا إلى فرع النيل القريب، الذي استحال لونه إلى أخضر عَكِر، بعد أن كان أزرقَ صافيًا على أيامه كسماء (أبيب)( )، فيلقى نفسه فيه ليستحم ويخرج.
كان قد عرف كلمات بسيطة قد فهم معناها، فمجنون أو عبيط مثلا، يشار بها إليه دائمًا، وقد تعنى المَلك بهذه اللغة أو شىء من هذا القبيل.
أمّا الإشارات مثل تعال، وهنا، وهناك، فلم يجد صعوبة فى فهمها.
استغرب الناس الذين كانوا على زمانه يذهبون إلى الأعمال صباحًا وينامون ليلا، فصاروا يقضون ليلهم ونهارهم فى هذا المقهى، إلاّ أن طيبة قلوبهم ما زالت هى هى، لم تتغير.
وصار يتابع هذا الصندوق المربع الذي ينقل أحداثا كأنها واقع حى، يعلقه صاحب المقهى على الجدار ويتابعه الناس بفضول، فعرف من خلاله أخبارًا أحزنته كثيرًا.
عرف أنه لسبب ما، قد انتقل لفترة بعيدة جدًا عن زمانه، وقد أصبحت مِصْرُ هذه لا تَمُتُّ بصِلة لمِصرَ التي كان يحكمها.
فالقمامة فى كل مكان، بداية من عقول الناس، وانتهاءً لقاع النيل وضفافه الذين لم يسلما من قمامتهم.
وزحام...
زحام شديد فى كل مكان، كأن الأرض قد خلت من صحرائها فتكدسوا.
المقهى متكدس، العربات متكدسة، الشارع مزدحم، حتى الشارع الرئيسى المطل على الأهرامات، ممتلئ عن آخره، كأن مصرَ قد عاشت كلها على مدار السنين فى مكان واحد.
والناس؛ إمّا فقراء أو مرضى، أو كلاهما معًا، وضف على هذا، جلوسهم بلا شغلة أو مشغلة.
وأقسَمَ فى قرارة نفسه بحق الإلهة، أنه لو كان ما زال يحكمهم، لجمعهم وأمرهم أن يبنوا عشرين هرمًا.
عشرون هرمًا كل ليلة!
والنيل…
النيل الذي حارب القدماء أمَمًا بأكملها للحفاظ عليه، قذر.
الشىء الوحيد الباقى من عادات الناس، هو السجود وأداء فروض الطاعة والولاء، حتى لو كان السجود قد تغير بشكله، لكنه بقى بمعناه.
قام من مكانه وصرخ فى الناس:
- يا شعب مصر العظيم.
التف الناس حوله، وأخفض صاحب المقهى صوت التلفاز وانتبهوا جميعًا.
وقف فى عظمة وقال:
- إن بلادكم، هى البلاد التي اختارتها الآلهة لتعيش فيها قديمًا، وقد تركتها لكم لتحافظوا عليها وعلى خيرها ونيلها.
لم يفهم أحدهم كلمة، فتوجّه لأقرب الجالسين إليه وجذبه فى قوة وقال:
- أهذا ما تفعلوه بإرثكم العظيم؟!
واقترب من آخر يصفعه:
- ألهذا صنع الأجدادُ كل ما تركوه لكم من مجد؟!
وضع الرجل يده على خدّه المصفوع فى ذهول، فأكمل فِرْعَوْنُ وصرخ:
- الآن أقول لكم الكلمة الأخيرة، إنى راحل، وإنى لمغتاظ منكم، وآسف عليكم، وإنه ليملأ قلبى الأسَى والحزن عمّا ستقولونه إذا أنتم مِتّم ولاقيتم آلهتكم.
ثم اعتدل وقال فى أسًى:
- حافظوا على إرثكم.
لم يكن الكلام مفهومًا، إلا أن صوت التصفيق قد علا، واحتضن الناس بعضهم، ونظر له آخرون فى أسف، قبل أن يلقى أحدهم بخرطوم الشيشة أرضًا فى حماس، وهو يتجه نحوه ويصافحه فى حرارة قائلاً بصوت مرتفع:
- الله ينوّر يا ابن العبيطة....
وانفجر روادُ المقهى ضاحكين.
وكان هذا هو آخر مشهد، قبل أن يتركهم فِرْعَوْنُ ليمضى إلى حاله بعدما وصّاهم.
وصيته الأخيرة.



