الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

ذنب لا يغتفر

رسم: عصام طه
رسم: عصام طه

 تطلعت إليها بعينين تضجان بالحب والخوف.. هى تُحلق فى الفضاء بجناحين يبرقان تحت أشعة الشمس.. تعجبت وهى تتطلع إلى الحمامة البيضاء التي تفرد جناحيها وتستقبل الهواء والدنيا بطولها. لا تهاب الطيران ولا تخشى الصقور من حولها. تنهدت وتساءلت فى همس:

(كيف لحمامة رقيقة مثلك ألا تخاف! كيف لرقيقة الملامح ضعيفة الجسد مواجهة كل الشر المتربص بها.. إنها لا تعرف وهذا أفضل. فأحيانًا معرفة المخاطر وتجنبها الدائم سيؤدى إلى السجن والعزلة).

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

ابتسمت وهى تتطلع حولها فى حسرة وألم وهى تلقى بنظراتها إلى أسياخ الحديد على شباكها، وهمست:

(إنه فعلاً سجن.. ولكنه سجن آمن لا وحوش ولا ضوارى).

دق الباب بنقرات لطيفة لتبتسم فى حب وتسرع باستقبال والدتها هاتفة: 

(نَعَمْ أمّى. لقد استيقظت. سأقوم بإعداد الإفطار).

احتضنتها الأمّ فى هدوء وتنهدت فى حزن هاتفة: 

(كنت أتمنى لو تخرجين بنية لشراء الإفطار بنفسك والتجوّل حول منزلنا الباعة فى منتهى الرقة والذوق.. يكفى خوفًا زينب.. هل ستبقين باقى عمرك تختبئين بين جدران غرفتك كالفأر المذعور؟!).

ترقرقت الدموع فى عينيها العسليتين الشديدتين الجمال وهتفت فى اختناق:

(كيف يمكننى الخروج أمّاه.. إنى أراه فى كل الوجوه. أراه فى أحلامى. كيف السبيل للخروج وأنا قاتلة.. قتلت نفسًا كانت تحيا وتتنفس مثل البشر).

تنهدت والدتها فى حزن دفين ولم تنبس ببنت شفة حتى لا تذكرها بالحادثة البشعة التي دمرت حياة ابنتها.. انتحب قلب الأمّ فى صمت وابتهل لربّ العباد أن يزيح تلك الغمّة عن صغيرتها.

تتجمع حبّات العرَق على جبينها وتنتفض فى رعب.. يد تقترب منها تلمسها لمسات مقززة مثيرة للغثيان تحاول الصراخ فلا تجد صوتها.. تدفع اليد بكل قوتها محاولة التملص من قضيتها ولكن اليد تزداد قوة وسيطرة عليها وتبدأ حالة من الفزع حينما تمر اليد على أجزاء جسدها محاولة تجريدها من ملابسها. تحركت فى جنون لتجد شيئًا لامعًا حادًا لم تعرف كنه لتسحبه فى سرعة وتدمى يدها ولم تهتم وتغرس الشىء الذي لم يكن سوى نصل سكين مكسور فى اليد بكل قسوة وتخرجها مرة أخرى وتنهال بها غرسًا فى أماكن متفرقة لخيال شخص غير واضح وأخيرًا تحرّر صوتها وانطلقت صراخاتها تدوّى فى رعب وجنون…

أخيرًا أضاءت الدنيا من حولها وسمعت صوت والدتها كأطيب ما يكون: 

(زينب.. زينب. استيقظى بنية أنه كابوس.. لقد انتهى هذا الأمر منذ زمن ... إلى متى ستظلين هكذا يا فلذة كبدى؟!). فتحت زينب عينيها وتطلعت نحو والدتها فى حزن وهتفت:

(أنا قاتلة أمّى.. هل ترين يدى مازالت ملطخة بالدماء).

نظرت نحوها أمّها وهتفت فى حسم: 

(لقد كان يستحق.. ذلك القمىء يستحق ذلك الجزاء.. كاد أن يعتدى عليكِ لولا رحمة الله وحُسن تصرفك).

انتفضت زينب وهتفت فى صوت متقطع ملىء بالعذاب: 

(لم يتعين علىّ قتله أمّاه كان من الممكن أن أكتفى بجرحه عندما غرست النصل فى ذراعه أول مرّة إلا أنى طعنته أكثر من عَشر مرات...  لِمَ فعلت هذا؟ لِمَ؟!).

تنهدت الأمّ فى حيرة ولم تستطع الاجابة عن هذا السؤال ولكنها ألقت بقرار صارم لا رجعة فيه:

(زينب من الغد ستعاودين الذهاب لجلسات الطبيب النفسى... ولن أقبل بأى أعذار. لن أعيش لك أبدَ الدّهر.. عليكِ أن تخرجى وتستعيدى حياتك وهذا قرار لا نقاش فيه).

ارتجفت زينب وهتفت متضرعة فى رجاء كاد أن يستميل قلب الأمّ: 

(ليس الآن أمّاه. لست مستعدة.. أحتاج فرصة ووقتًا أكثر.. أرجوكِ اتركينى أنعم بالأمان هنا بعض الوقت).

نظرت إليها أمّها فى هدوء وتحركت مبتعدة هاتفة فى لهجة صارمة:

(سأتصل بالطبيب زينب وسأحدد ميعادًا لجلساتك ولا سبيل للبقاء بين هذه الجدران بنية.. فلن تحميكِ تلك الجدران من قضاء الله وما كتُب عليكِ زينب).

تتطلع إلى الغرفة المريحة للأعصاب بألوانها المتناسقة ما بين درجات الأزرق المتدرج فى رهبة.. تحاول الهرب من نظرات الطبيب إليها وعدم الرد على أسئلته بكل الطرُق.. هى لا تريد أن تتذكر.. لا تريد أن تعود لتلك اللحظات المميتة فى حياتها ولكنه على ما يبدو فهم طريقتها البسيطة للهرب فهتف متسائلاً فى هدوء: 

(هل تحبين الطيور زينب؟).

تطلعت إلى الطيور الملونة داخل القفص فى إعجاب هاتفة:

( نعم أعشق الطيور).

ابتسم فى انتصار هاتفًا: 

(وهل الطيور تصلح داخل الأقفاص.. سميت طيورًا من الطيران والحرية والبحث عن آفاق جديدة للخروج واستكشاف أماكن جديدة).

ارتعشت زينب هاتفة:

(الخروج معناه فقد الأمان والوقوع فريسة لأى صياد.. أليس كذلك؟).

هز الطبيب رأسه موافقًا وأجاب: 

(هذا صحيح لا يمكن أن ننكر أن الطيران والخروج مرادف للخطر ولكن هل معنى ذلك أن تتوقف كل الطيور عن الطيران.. أن تتوقف الرفرفة والزقزقة والأحلام ونستكين للسجن خوفًا من الصياد.. هل تظنين أن البقاء داخل القفص يسعد العصفور الرقيق الذي أمامك؟).

تطلعت زينب للعصفور الذي يتحرك بحركات رتيبة منتظمة ولا يصدح صوته لتقارن بينه وبين الحمامة البيضاء التي رأتها تفرد جناحيها بكل كبرياء وشموخ.. تنهدت فى حزن ولم تستطع الرد ليسألها الطبيب مرّة أخرى:

(أريد العودة إلى يوم أن خرجت لمعرفة نتيجة التخرّج الخاصة بك زينب.. أريد العودة لأربعة أعوامٍ مضت).

انتفضت زينب ورجعت بالذاكرة لتطرق المطارق فى رأسها:

سعيدة هى للغاية تتحرك فى مرح وانطلاق. لقد حصلت على تقدير عالٍ ستفرح به أمّها ويطيب به ذكرى والدها الراحل.. تحركت لركوب سيارة أجرة حتى تعود مباشرة للمنزل.. تحركت السيارة سريعًا ولم تلحظ الطرُق ولا الأشخاص الذين نزلوا متتالين من السيارة حتى لم يتبقَّ سواها.. كانت سعادتها تغطى على كل تفكيرها لتنتبه فجأةً على دخول السيارة فى منطقة صحراوية منعزلة وتبدأ هى فى القلق وهتفت فى سرعة:

(هذا ليس الطريق المعتاد.. أين نحن الآن؟).

لم يأتِها أىُّ رَدّ مطلقًا؛ بل تزداد السيارة سرعة وتتوقف على حين غرّة ويتحرك السائق بعينين تلتمعان شرّا وشهوة ويجذبها عنوَة من السيارة وتصرخ هى فى جنون محاولة الدفاع عن نفسها ولكنه يدفعها أرضًا فى قسوة.. لمحت النصل وأمسكته ولم تشعر بنفسها إلا وهى تغرسه فى كل جزء من جسده دون وعى وتخضبت يداها بالدماء وظلت الصرخات مستمرة لأمدٍ طويل…

تنهد الطبيب هاتفًا: 

(دافعتِ عن نفسك وحريتك. لستِ بقاتلة زينب).

تمتمت فى تلجلج:

(كان يمكن أن أكتفى بضربه ضربة واحدة أو..…

قاطعها هاتفًا: 

(لم يكن عقلك موجودًا وقتها زينب؛ بل الغريزة هى من حركتك...عليكِ العودة والنسيان والغفران لنفسك زينب.. فعلتِ ما توجب عليكِ أن تفعليه. هيا حلقى فى سماء الحرية.. عودى للحياة.. كفاك سجنًا).

أغمضت زينب عينيها متسائلة فى ألم:

(انى قاتلة.. لقد اقترفتُ ذنبًا لا يُغتفر سيدى).

ابتسم الطبيب هاتفًا:

إذا كان الدفاع عن الشرف والحرية ذنبًا لا يُغتفر إذن ما عقاب من ينتهك الحرمات وينوى الشر زينب.. هيا اخرجى وحلقى كحمامتك فى السماء.. واتركى الذنب فليس هو بذنب؛ بل كبرياء لا ينكسر..

 (تمّت بحمد الله).

تم نسخ الرابط