خلف نافذة الأمل
يا رباه! ومن يتحمل أن يرى أمه تُعاني كل هذه الآلام، ولا ينتفض من أجلها! سرطان الدم ينهش لحمها، ويلوث دمها، ضعفت مناعتها، بعد أن تجاوزت السبعين من عمرها، وازداد الوضع تفاقمًا بهجوم فيروس كورونا عليها بكل ضراوة، تسلل إلى جسدها على حين غفلة، وضربها في مقتل.

يا لصدمة أبنائها- إذ كانوا بررة- وفداحة خسارتهم!
الأم كالعمر لا يأتي إلا مرة واحدة لا تتكرر، قالها أصغر أبنائها سنًا، وأقربهم منها قلبًا، ظل يتعهدها يوميًا، مرافقًا لها منذ أن باغتها هذا الوحش المستجد من المنزل، وحتى المستشفى، لم يخش أبدًا الإصابة من وجوده معها، ومرافقتها في المنزل والمستشفى، فالعدوى من الأم بركة، لم يتركها إلا مرة واحدة لقضاء بعض الطلبات، بعد خروجه من المستشفى لمدة ساعة واحدة فقط، وعند عودته رفض رجال الأمن دخوله مرة أخرى، طبقًا للتعليمات التي تمنع مغادرة المرافقين، وعودتهم للمستشفى، أوصدوا الأبواب في وجهه، ومنعوه من الدخول.
وهنا جن جنونه، وفقد عقله، كيف يحرم عينيه من رؤيتها؟! أنى لقلبه أن ينبض بالحياة دون أن يسمع دقات قلبها؟! ظل طوال الليل يحاول الدخول، ولكن دون جدوى، فكر، وفكر، واستمر يفكر، فكان الحل أن يتحول إلى..، نعم هو ذاك، تقمص شخصية الرجل العنكبوت، وراح يتسلق بخفة وحذر جدران المستشفى على أنابيب المياه الممتدة بطول المستشفى، غير آبه بما يعترض طريقه، تسلق الطابق الأول فالثاني، ومنها إلى نافذة غرفتها ليطمئن عليها، وظل مرابطًا هناك، من خلف الزجاج يرقبها بقلبه قبل عينيه، بشغف المنتظر ورجاء الملهوف، لم يتغيب يومًا ولم يفقد الأمل، في الداخل على السرير الأبيض، ينام قلبه النابض بالحياة عاجزًا عن الحركة، يشعر أن روح أمه تحاول أن تلمس رأسه، وتمسح عليها، يتذكر ملامحها التي لا تغيب عن باله، وضحكاتها التي تسفر عن شمس تنير حياته لا يستطيع نسيانها، عندما كان صبيًا يلعب في الشارع مع أقرانه لعبة الغميضة، ويسمع صفارات الإنذار من سيارات العدو المحتل وذئابه المعتدية، فيهرول إلى البيت مرتجفًا يرتمي في أحضانها، يضع رأسه في حجرها، تمسح على رأسه، يهدأ، وما هي إلا دقائق معدودة، يشعر بالأمان؛ فيغفو في حجرها.. أحس المسافة بين الشباك ووالدته- كأنها مسافة بين السماء والأرض.
مساء كل ليلة يجلس مع شمس حياته في نفس المكان يتكئ على حافة النافذة، معلقًا بين السماء والأرض، خلف النافذة يحدوه رجاءً وأملًا، يداه مغلولتان، يقف عاجزًا، لا يستطيع فعل شيء، كلما رآها تتألم تحت أجهزة التنفس، تكاد روحه تنخلع من بين حناياه. ولكن للقدر تدابيره المكتوبة التي لا مناص منها، هوى قمره بين يديه، وتوفيت بين ذراعيه، ولم يستطع فعل شيء، فقد ماتت من كانت تكرمه صغيرًا وكبيرًا، كان عنده أمل ترجع معه تنير بيته وحياته، ولكن الموت أخذها منه بعد ساعات من رجوعه لها، وأخذ قلبه معها. ماتت، وهي تبتسم له.
وبقي معلقًا على جدار البر خلف نافذة الأمل، يردد مع نزار:
"بموت أمي، يسقط آخر قميص صوف أغطي به جسدي، آخر قميص حنان، آخر مظلة مطر، وفي الشتاء القادم، كل النساء اللواتي عرفتهن وحدها أمي، أحبتني وهي سكرى، فالحب الحقيقي هو أن تسكر، ولا تعرف لماذا تسكر؟!".



