السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

 ما بين الحياة والموت والعودة 

رسم: احمد سميح
رسم: احمد سميح

فتح هاتفه كعادته بعد أن استيقظ وتناول إفطاره وأخذ رشفتين من شاى الصباح وبعض أنفاس سيجارته، وهو بركته من الصالة بعد أن وزع المصروف على أبنائه الذاهبين إلى المدرسة والجامعة.

  فقد اعتاد صادق- الذي تجاوز الخمسين من عمره- غلق هاتفه أو يتركه فى وضع  الصمت قبل أن ينام. 

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

اعتاد على ذلك؛ فهو يكره أن يتكلم أو يجادله  أحد حتى زوجته وأولاده، أو يستفتح نشاط يومه  قبل أن يربط رأسه بكوب الشاى والسيجارة. ثم إنه فى هذه الأيام خاصة، ومع جائحة "كورونا" لم يعد تصله من أخبار إلا سيئها. 

... فإمّا زميل له فى العمل أو صديق أو أحد معارفه أصابه هذا الفيروس اللعين، أو أحد أقاربه  يسأله عن فرصة عمل بعد أن فقد عمله، وإمّا صاحب البيت يستعجله أن يخلى الشقة التي انتهى عقد إيجارها قبل شهرين. 

ولم يكن ليستقبل مثل هذه الأخبار، كما لا حول ولا قوة به لإجابة مسألة أحد المتصلين، ولا الرد عليه باللين إلا وحالته المزاجية معتدلة إلى حد ما. 

... فلما فتح الهاتف فاجأه أن أحدًا من هؤلاء الذين كان يخشاهم لم يكن من المتصلين، فاستبشر خيرًا...وأول مرة منذ فترة يستبشر.

بل كانت البشرى الحقيقية أن وجد الاتصال الوحيد والمتكرر كان من صديقه القديم حازم  زميل دراسته فى الإعدادية والثانوية، ذلك الذي أصبح من الأثرياء وذوات الأملاك بعد أن كان فقيرًا معدمًا.

0  كانا متلازمين لا يفترقان فى جدهما ولهوهما. 

... لقد كانا أكثر من صديقين أو زميلين، يقضيان الوقت معًا أكثر مما يقضيانه مع أهليهما، فكانا يستأجران حجرة واحدة فى المدينة أوقات الدراسة بعد انتقالهما من قريتهما الصغيرة التي لم يكن بها إلا المدرسة الابتدائية... حتى فى الإجازة الصيفية كانا يذهبان معًا للعمل بتأجير الشماسى  بأحد شواطئ الإسكندرية .

 إلا أن حازم  لم يكمل دراسته بعد الثانوية لوفاة أبيه، وتفرّغ للإنفاق على أمّه وإخوته الصغار.

2

وسلك صادق طريق تعليمه حتى تخرّج فى الجامعة والتحق بالعمل بوظيفة بمجلس المدينة.

... ظل حازم  يتردد عليه فى مقر عمله أوقاتًا أو يلتقيان فى السهرة على أحد المقاهى أوقاتًا آخرى، وكان سؤاله الدائم: ألا تجد لى "شغلانة" لدى أحد معارفك أو المتعاملين مع مجلس المدينة، لقد زهقت من العمل باليومية مع هذا أو ذاك.

صادق كان يشعر بمعاناة صديقه، ويحز فى نفسه أن يرى صديق الصبا والشباب فى ضيق وعوذ جعله كئيبًا  وملامح البؤس تكسو وجهه.. هذا الذي كان بشوشًا ذا الوجه الذي يشع بهجة... لكن ما بيده حيلة؛ فحازم لم يحصل على شهادة تشفع له أن يتوسط لدى مديره لتوظيفه أو لديه فائض من مال يمنحه له ليبدأ به مشروعًا خاصًا.

ثم تفتق ذهنه أن يفاتح صاحب إحدى شركات المقاولات المتعاملين مع مجلس المدينة فى أعمال المرافق والإسكان ليجد عملًا لحازم..

وقد كان، وتدرج حازم فى عمله حتى صار الذراع اليُمنَى لصاحب الشركة لما وجد فيه من دأب وذكاء وإخلاص، واكتسب الخبرة بشؤون العمل وأصبح له دخلٌ يكفيه وأسرته ويدخر منه،، وعادت إلى وجهه بهجته وأصبح لا يفوت يومًا دون لقاء صادق. 

وكلما التقاه شكره وأنه لن ينسى جميله حتى يموت. 

... لكن الأيام وتغير أحوال حازم أنسته؛ فقد كبر حازم وأصبح لديه شركة مقاولات كبيرة متعددة الأعمال فى القاهرة، ولديه مصنعٌ كبيرٌ ومزرعة فى الطريق الصحراوى تتعدى الماءتَى فدان وعدد من السيارت.. لقد أصبح" مليونيرًا"..

.. وأصبح لا يرد على اتصالات صادق إلا نادرًا، ولم يدعوه إلى زيارته فى فيلته الفاخرة فى القاهرة الجديدة، وعندما ألح عليه بأنه يفتقده ويريد أن يراه ويستعيدان الذكريات الجميلة، أخبره أن يأتيه فى المزرعة فى يوم إجازته.

فكلم أخاه أن يأتيه بسيارته ليوصله، وأخذ يقص على أخيه محاسن صديقه وأنه سوف يدهشه استقباله لهما حتى وصلا. 

وكان صادق وهو يجلس مع صديقه القديم يراه يقوم كثيرًا من المجلس تاركه وأخاه، أو ينشغل عنهما بهاتفه، ولم يحسن ضيافتهما.. فشعر أنه ضيف ثقيل أو كأن حازم يظن أنه جاءه ليطلب منه معونة؛ فانصرف وعزم ألا يكلمه مرة أخرى.

3

 ولولا حرجه من أخيه الذي صحبه بسيارته إلى المزرعة أن يكذب مدحه لصديقه أو يقول إن أخاه جاء لمنفعة لوبّخ حازم قبل أن ينصرف. 

.. لذلك كانت مفاجأةً له أن يرى اتصال حازم به بعد سنوات من زيارة المزرعة وانقطاع الاتصال بينهما، وكان صادق فى هذه الآونة يعانى من أعباء معيشته التي زادت كمعاناة ذوات الدخل المحدود فى ظل ارتفاع الأسعار وتداعيات أزمة "كورونا"، ولديه ستة أبناء اثنان فى الجامعة وأربعة فى المدارس، حتى صاحب البيت يريد إخراجه من الشقة لحاجته إليها ولا يملك تكلفة سكن جديد. 

قال فى نفسه: ماذا يا ترى، هل شعر حازم أخيرًا أنه أخطأ فى حقى؟ هل تذكّر صداقتنا القديمة؟ هل آفاق من سُكرة الثراء وتذكر جميلى عليه؟ 

... لكن رسالة نصية كانت مع المكالمات الفائتة التي وردت من حازم أوقفت تساؤلات صادق. تقول الرسالة "أنا عندى كورونا وفى المستشفى يا صادق وعايز أشوفك ضرورى،  ياريت ما تتأخر"، وفى  الرسالة عنوان المستشفى.

ففزع وألقى سيجارته وارتج كوب الشاى فى يده وأسرع فى هرولة إلى دولاب ملابسه، وزوجته تتعجب: مالك قمت هكذا؟! ماذا حدث؟ فيرد عليها بصوت مخنوق: صاحبى حازم عنده "كورونا" وفى المستشفى. فأمسكت بذراعه فى عنف وغضب: عنده "كورونا" وذاهب إليه برجليك! أتريد أن تموت! ألم تسمع عن مصائب "كورونا" والعدوى القاتلة؟... وأخذت على هذا المنوال، وهو لا يعبأ بها ويقول كلمة واحدة: حازم صديق عمرى. 

وصل المستشفى الاستثمارى ودخل بعد إجراءات التعقيم اللازمة ووصّلوه - حسب طلب حازم- حتى النافذة الزجاجية المستطيلة التي بغرفة الحجز، وحاول الدخول فمنعوه، والطبيب المعالج ينتحى به جانبًا ويقول: أنت ابن حلال ويبدو أن الحاج حازم عزيز عليك وانت عزيز عليه. 

- طمّنى  يا دكتور عن حالته، ثم ماذا عن أنى ابن  حلال وعزيز وهذا الكلام؟ 

- الحاج ربنا يلطف به، لقد قمنا باللازم والشافى هو الله.. أمّا قصدى من الكلام، أنك أنت الوحيد الذي جئت لزيارة الحاج حازم.. حتى أبناؤه وزوجته لم يأتوا. 

- كيف ذلك، وهل يعقل أبناؤه وزوجته لا يزورونه! 

- بل أكثر من ذلك.. وأضاف فى أسًى: لقد طلب أحدهم منّى آخر مرة ألا أتصل بهم إلا إذا.. 

4

مات أبوهم أو شفى ثم أغلقوا هواتفهم بعد كثرة اتصالى بهم ليأتوا لزيارة أبيهم بناء على طلبه المتكرر. 

- كيف ذلك، أين نعيش، نحن وماذا حدث للدنيا! 

- هو كذلك والله الذي حدث.. إنهم يخشون على أنفسهم ويقولون فى أنفسهم أبونا ميت ميت فلا نموت معه.

  - لا حول ولا قوة إلا بالله. 

- والآن هناك وصية يطلب الحاج حازم شهادتك عليها ومنحة لك منه، أنك وقد حضرت لرؤيته فهناك شيك بمبلغ معين سوف يوقعه لك بعد أن يراك من خلف الزجاج هذا ويحدثك عبر الهاتف، والآن سوف أدخل لأفيقه حتى يراك.. فحَدّثه وطلب أن يسامحه أنه جحد فضله عليه ورجاه أن يقبل الشيك.  

... خرج صادق من المستشفى وهو لا يصدق ما جرى، الرجل فى آخر أيامه يحرم أسرته من الميراث ويكتبه للأعمال الخيرية، ثم يعطيك  شيكًا بثلاثة ملايين جنيه.. وهو ما بين الحزن على فراق صديقه الذي اقترب وبين  السعادة أن سيصبح معه مالٌ لم يحلم به فى حياته. ويستعيد ذكرياته ويؤنب نفسه أنه ظن سوءًا بصاحبه بعد زيارة المزرعة..

ثم عاد للبيت فلم يجد زوجته ولا الأولاد، فلما اتصل بها أخبرته أنها فى بيت أبيها وأنها اتصلت بالأولاد ليتبعوها، وأنهم كلهم  لن يعودوا حتى تمر فترة الشك فى إصابته بالعدوى، وقالت: إن كنت مستغنى عن نفسك فأنا لا أستغنى عن أولادى. 

ولم يخبرها أو أى أحد عن موضوع الشيك، ولم يصرفه، وأخفاه. وكان يتصل بطبيب صديقه ويتابع حالته. 

بعد أسبوعين خرج حازم من المستشفى بعد شفائه من الفيروس ونجاته من الموت، واتصل بصادق أن يأتيه فى فيلته ومعه الشيك، فتعجب كيف عرف أنه لم يصرف الشيك !.. ربما يكتب لى آخر بمبلغ  أكبر. 

... فلما التقاه وشكره وأثنى على وفائه ونبل موقفه وزيارته له فى وقت تخلى عنه الجميع، ثم سأله : أأحضرت الشيك؟

- نعم، ها هو. 

فأخذه وقال إن أجَلَه بعد شهرين وسوف أكتب لك آخر تصرفه فى أى وقت؛ حيث أجريت 

5

اتصالات بالبنك بخصوص حسابى، فقال له: لا داعى، المهم سلامتك وأنا مستور والحمد لله. قال: لا.. أنت جميلك لا يقدر بثمن ولكن الظروف تحكم.. وكتب له الشيك ووضعه مطبقًا بيده فى جيب قميص  صادق، ويربت على كتفه: سلم لى على الأولاد. 

خرج صادق من عنده وهو يتساءل مستبشرًا: يا ترى يا هل ترى كم زادنى صديقى الحبيب؟ 

فلما أخرج الشيك من جيبه ويقرأه ويعيد قراءته ليتأكد من الحروف والأرقام.. فوجد مكتوبًا فيه  "عشرة آلاف جنيه مصري فقط لاغير" !!!!!!!

 

تم نسخ الرابط