
يوم أحببت رؤية

قصة: وليد حسن قاسم
الذي يحدثكم الآن معتز طالب الفرقة الثانية بكلية التربية، لكننى لم أكن هكذا منذ عام مضى؛ فقد عُرفت من صغرى بروحى المرحة ولسانى صاحب الكلمات التي لا تنقطع عن المزاح، لقد كنت اجتماعيًا بكل ما تحويه الكلمة من معن.
كنت أنظر لمستقبلى بعين متفائلة، لم أكن أعرف أننى على موعد مع حدث لتتغير بعدها حياتى كلية، كنت أسكن فى قرية نائية جدًا، لم أكن أحب تلك القرية ولا أهلها لكننى سكنتها لأجل أهلى؛ فقد كنت أسكن مع أبى صاحب الخمسين عامًا لكنه رغم سنّه كانت صرامة مواقفه تخنقنى وأمّى كانت تشاركنا ذلك البيت.

لقد كانت القلب الطيب الذي يحتوينا لكنها لم تجرؤ أن تخرج عن طوع أبى فى أوامره التي لم تكن تتوقف أبدًا، لقد كرهت بيتنا لأجل تلك القوانين التي كان يسنها فى حياتنا دون رجوع إلينا، لقد علمت أن أبى سيختار لى كل شىء حتى زوجة المستقبل.
مرت حياتى بهذا النمط دون جديد يتخللها حتى جاء اليوم الذي غيّر حياتى إلى الأبد وما زلت أعانى بسبب هذا اليوم، ذلك اليوم بدأ بخبر وفاة عمّى، ذلك الرجل كنت أحبه جدً رُغم أنه يسكن فى محافظة بعيدة عنا؛ إلا أننى لم أنساه أبدًا، وعمّى هذا كانت له بنت فى نفس عمرى وأخت تصغرها وأخ ثالث يكبرهما.
لم يكن بين عائلة أبى وبيت عمّى صلة قبل هذا اليوم تذكر إلى أن جاء ذلك اليوم ليهرول أبى إلى بيت أخيه ويقف إلى جانبهم، لقد أعجبنى موقف أبى، ومنذ ذلك اليوم وعلاقتنا ببيت عمّى توسعت، فى تلك الفترة لم أذهب أنا إلى بيت عمّى، لقد كنت مسافرًا فى عمل لتمر أيام بعدها وأعود دون أن يأتى ببالى أن أتصل بزوجة عمّى لأعزيها، لقد كنت أكرهها منذ صغرى.
وهى أيضا كانت تكرهنا، كنت أرى فيها صرامة تشبه صرامة أبى الخانقة، بدأت دراستى وانشغلت بها واعتدت أن أعود بعد منتصف النهار، ذلك اليوم عدت متعبًا وبمجرد دخولى إلى البيت سمعت أبى يتحدث فى هاتفه ويبدو أنها زوجة عمّى وأولادها، تجاهلت الأمر وهممت متجهًا إلى غرفتى لأتفاجأ بأمّى تنادينى وهى تمسك هاتف أبى "معتز، بنت عمّك تريد أن تحدثك"، كلمات أمّى كانت كمَطرقة دقت فوق أذنَىْ.
لم أدرِ ساعتها كيف يكون رد فعلى، فبنت عمّى رؤية لم يكن بيننا حديث من قبل أبدًا وآخر عهدى بها كان فى صغرنا، رؤية الآن فى الفرقة الثانية من كلية التربية، أى فى نفس كليتى، لكنها تدرس بمحافظتها وكنت أتابع أخبارها من حين لآخر، أمسكت الهاتف من يد أمّى محاولاً استجماع كلماتى وكأننى أول عهدى بالهاتف وببنت عمّى، عندها اجتاح صدرى شعور طفولى؛ فقد خُيّل إلىّ أن أهرب من هذا الموقف لكننى لم أستطع "السلام عليكم" تلك أول كلمة أقولها لأسكت بعدها وأسمع صوتًا عذبًا يتدفق إلى أذنَىْ.
لقد كان مختلفًا بكل ما تعنيه الكلمة من مضمون، سمعتها تقول لى "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، كيف حالك يا معتز؟" كلماتها أخرست لسانى برهة لأسمعه بعدها بلحظات وأنا أقول لها بعفوية "الحمد لله بخير، رؤية البقاء لله" شعرت عندها من نبرة حديثها وكأن لسان حالها يقول الآن وقد تذكرت وفاة عمّك، عندها ردت قائلة لى بصوت متكسر فى لهجته لم أفهم معانيها لكننى تجاهلتها.
لكننى وأنا أسمعها تفاجأت بسؤالها العفوى تقول لى "أمعك حساب شخصى على موقع التواصل يا معتز؟" رجع قلبى ينبض نبضات تخللها فرح بسُؤْلها وخوف من عاقبة قولها، عندها وجدت نفسى أقول لها "نعم لى خذى عنوانه" أمليتها حسابى وأبواى ينظران لحديثنا فى عجب يخالطه استنكار من أبى الذي اعتدته هكذا دائمًا حتى فى أتفه الأسباب، عندها أنهيت اتصالى وحديثى معها على عَجَل واتجهت إلى غرفتى الطابق الثانى دون أن أتكلم إلى أبى وأمّى بشىء شعرت حينها أن بداخلهما علامات استفهام لا تنتهى بسبب مكالمتى.
وكانت أمّى تخاف أن يكون بينى وبين رؤية شىء، فهى تعلم أن أبى لن يوافق على شىء كهذا وهى الأخرى لن تخرج عن طوع أبى، تجاهلت أمرهما ودخلت غرفتى وخلعت ملابسى وأرتديت غيرها لأستلقى بعدها على سريرى ممسكًا بهاتفى أقلب فيه دون هدف، وفجأة رايت رسالة من بريد مجهول فتحتها على عجالة"اننى رؤية كيف حالك ؟"حينها فقط أحسّست بتغير فى جسدى كدت أن أرقص فرحًا وعلى عَجَل راسلتها وأرسلت إليها رسائلى تباعًا ولتستمر رسائلنا دون انقطاع أحدثها فى الصباح وأطمئن عليها آخر النهار وآفكر فيها آخر الليل، لقد كانت أيامنا جميلة غطتها السعادة فى كل جوانبها.
ولكن وكما يقال إن الحلو لا يكمل فلم يكن لرؤية حافظت كتاب الله أن ترضى بعلاقتنا دون شىء يربطنا أمام الناس، حينها صارحتنى بما يجول فى عقلها وأنا وافقتها الرأى وتحدثت إلى أمّى بما أريد، لقد كانت أمّى حسنة فى مظهرها حسنة فى حديثها لكننى هذه المرّة كأننى أتحدث مع امرأة لا أعرفها، ففجأة وجدتها وأنا أتحدث إليها فزعت من مكانها وردت على بصوت عالٍ لم أعهده "اسمع جيدًا هذا الأمر؛ لن يتم ولو على أجسادنا لا أنا ولا أبوك سنرضى بهذا" كنت أنظر إليها وعيناى تحملان ألف سؤال وسؤال، لم أفهم سبب رد فعلها.
والذي أغضبنى أكثر أن أمّى كانت من عاداتها لا تعطى رأيها إلا بعد رأى أبى، لكن هذه المرّة قالت رأيها ورأى أبى وكأنهما اتفقا على هذا الرأى، حينها تركتها دون تعليق على قولها وتوجهت إلى غرفتى أغلقت الباب جيدًا وكأننى أخاف أن يرانى أحدهما على حالتي، وبمجرد أن جلست على كرسى انطلقت دمعات تُعَبر عن قهرى وضيق صدرى، أنا أريدها وهى تريدنى لكن الأهل لهم منطق غريب ونحن سنكون ضحيتهما إن لم يرجعا عن رأيهما.
بينما على حالى أشكو همّى لنفسى، وإذا بهاتفى يرن إنها رؤية سمعت صوتها متقطعًا وضيقًا يعتليه "ماذا حدث؟" سمعت بكاءها وهى تقول لى "لقد تحدّثتْ إلىّ أمّى بموضوعنا وهى رفضته بشدة ولا أدرى لماذا؟!" حينها سكتُ ثم قلت لها أصعب كلمات نطقتها فى حياتى "يبدو أننا لن نكون لبعض والأهل هم السبب، سامحينى رؤية، فقد فعلت ما بوسعى وخرج الأمر من بين يدى، فأهلى كأهلك يرفضون ارتباطنا..." وبينما أتحدث إليها زاد أنينها وسمعت بكاءها يعلو، حاولت تهدئتها فلم تجب، يبدو أنها تركت هاتفها وراحت فى بكاء لا ينقطع.
أغلقت هاتفى وشعرت بضيق احتوانى حتى كرهت نفسى، انتهت علاقتى بأجمل شىء عرفته وتمنيته لنفسى، مرّت أيام كثر بعد هذا الأمر والضيق هو الضيق واشتياقى لـ رؤية لا ينقطع حتى كرهت ذاك اليوم الذي عرفتها فيه وكرهت أبوَىْ لموقفهما، يبدو أن النسيان من الأمور التي لا تحصل عليها بسهولة فى حياتنا، ظللت أفكر كثيرًا فيما وصلت إليه وكيف أتصرف فى مستقبلى؟ هل آخذ رؤية وأتزوجها بعيدًا عن أهلى وأهلها وأضعهم فى الأمر الواقع أمْ أنساها ولا أفكر فيها ثانية وكأننى لم أعرفها يومًا ما أمْ أقتل نفسى وأريحها من عذابها؟. كانت أفكارى غريبة وصعبة فى مضمونها لكننى احترت فى وجود حل لحياتى، ولكن لو أن أحدهم مكانى ماذا كان سيفعل ليفز بما يريد ويرضى أهله فى الوقت ذاته؟؟؟؟؟
وفجأة ومن دون مقدمات وكأنها أحدث فيلم سينمائى ترصده عدسات الكاميرات اتصلت بى أمّها على غير عادة منها لتقول لى بصوت خافت يخفى شيئًا خلفه حتى أقلقتنى طريقة كلامها، فمجرد أن سلمت عليها قالت لى بلهجة تمتزج بين اللين والشدة "أعلم حبك لـ رؤية، وأعلم خوفك عليها، لكن إذا كان القدَر قد أصدر حكمه فى هذه القضية ونفذ السهم وخرج من قوسه كيف لنا نعيده مكانه؟ إن كنت تحبها فعلا فاتركها وشأنها ولا تكلمها مرّة أخرى". وجدت نفسى حينها أقول لها وأنا أتعجب من ردّى "كما تريدين، سأفعل ما تقولون". أغلقت هاتفى وتركته من يدى لتنسال بعدها دمعاتى دون إرادة منّى، حينها علمت أن آخر عهدى بـ رؤية كانت هذه المكالمة وأنا لا أدرى أن للقدر رأيًا آخر أمْ أن النهاية هى قرينة هذه العلاقة؟.