محمد أنور السادات.. رجل "القرار الصعب".. المنتصر حربًا وسلامًا
يقول علماء الاجتماع إن صناعة القرار هبة، وأن فئة قليلة من البشر لديهم القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة في الظروف الصعبة، وأن القرار السياسي هو الأصعب بين باقي أنواع القرارات، حيث إنه يمس حياة ملايين البشر، ويحدد مصير شعوب ودول لعشرات السنين.
مما لا شك فيه أن الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، كان واحدًا من تلك الفئة القليلة التي وهبها الله المقدرة على اتخاذ قرارات صائبة وسط سماء ملبدة بالغيوم.
يرتبط اسم الرئيس السادات بقرارين فاصلين في تاريخ مصر والأمة العربية عامة، فهو الذي اتخذ قرار الحرب وقاد الجيش المصري إلى أول انتصار عسكري على الجيش الإسرائيلي في أكتوبر 1973، وهو الذي اتخذ قرار "السلام" ورسم للقادة العرب بداية الطريق نحو وضع السلاح وامتطاء نهج التفاوض والسلام مع إسرائيل.
عندما تولي السادات رئاسة مصر في أكتوبر عام 1970، بعد أقل من شهر من وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، كانت الدولة على صفيح ساخن بكل ما تحمله الكلمة من معان، وكانت الأوضاع الداخلية والإقليمية متأزمة لأقصى درجة، وكان المصريون جيشًا وشعبًا، ينتظرون بفارغ الصبر إعلان الحرب ضد إسرائيل لاسترداد الأرض التي فقدت في يونيو 1967.

الثابت أن السادات كان يعد العدة للحرب على إسرائيل منذ توليه المسؤولية، ولم يتغافل عن ذلك الهدف للحظة واحدة، لكنه كان يرى أن الدولة لابد أن تستعد سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا قبل إعلان الحرب الشاملة، ورغم أن كل الظروف كانت تضغط على السادات لأجل اتخاذ القرار الصعب في وقت مبكر، إلا أن لم يرضخ أمام تلك الضغوط، ولم يتخذ القرار، إلا بعد استكمال القوات المسلحة كفاءتها القتالية، تسليحًا وتدريبًا، وبعد استعداد الشعب ومؤسسات الدولة لتبعات الحرب وأثارها، ثم خاض ملحمة عسكرية عظيمة أذهلت العالم، وأثبتت صحة وسلامة رؤيته حول ضرورة الاستعداد الكافي قبل اتخاذ القرار.
الثابت أيضا أن الحرب عند السادات هي وسيلة للسلام في النهاية، فحتى بعد النصر الذي حققه في حرب أكتوبر بتنسيق مع الجيش السوري واسترجع به جزءًا من شبه جزيرة سيناء المصرية التي احتلتها إسرائيل عام 1967، جاء إلى مجلس الشعب المصري وألقى خطابًا قال فيه من بين ما قال: "حاربنا من أجل السلام… لسنا مغامري حرب وإنما نحن طلاب سلام".
كان حياة الرئيس السادات، وتحديدًا السنوات الثلاث الأولى من حكمه، مليئة بالأحداث والاختبارات الصعبة، وغير الاعتيادية، والتي كانت تتطلب قرارات مصيرية في لحظات تاريخية أحيانًا، واحترف الرجل طوال مسيرته الملهمة، اتخاذ القرارات الصائبة في اللحظات الاستثنائية.

ولد محمد أنور السادات في قرية ميت أبو الكوم، مركز تلا بمحافظة المنوفية في 25 ديسمبر 1918، واستمر حكمه 11 عاما من 1970 وحتى 1981، وحصل على جائزة نوبل للسلام لجهوده الحثيثة في تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط. تربى السادات في كنف والده الذي كان موظفًا بإحدى المستشفيات العسكرية، ووسط أسرة عدد أفرادها 13، وكان سياسيًا نشطًا منذ شبابه، حيث اعتقلته سلطات الاحتلال البريطاني مرتين، إحداهما بتهمة العلاقة مع ضباط في الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، والأخرى بتهمة الانتماء إلى تنظيم سري خطط لاغتيال وزير المالية في حكومة الوفد ورئيس جمعية الصداقة المصرية البريطانية أمين باشا عثمان، وهو ما قاده إلى السجن من جديد بعد أن كان قد أفلح في الهروب منه والتخفي بالعمل حمالا على سيارة نقل تحت اسم مستعار هو الحاج محمد.

بعد خروجه من السجن عمل السادات أيضا مراجعًا صحفيًا بمجلة المصور وحتى ديسمبر من عام 1948، قبل أن يساعده صديقه الدكتور يوسف رشاد الطبيب الخاص للملك فاروق في العودة إلى الجيش.
انضم إلى حركة الضباط الأحرار التي قامت بالثورة على حكم الملك فاروق الأول في يوليو 1952، كما أسند إليه من قبل مجلس قيادة الثورة قراءة البيان الأول للثورة على أمواج الإذاعة، ومهمة حمل وثيقة التنازل عن العرش إلى الملك.

تقلد عدة مناصب كبرى في الدولة منذ ذلك الحين مثل رئاسة تحرير جريدة الجمهورية عام 1953، ومنصب وزير دولة في سبتمبر 1954، ورئيسًا لمجلس الأمة من 21-7-1960 إلي 27-9-1961، ورئيسًا لمجلس للأمة للفترة الثانية من 29-3-1964 إلى 12-11-1968، قبل أن يختاره الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر نائبًا له خلال فترتي 1964-1967، و1969-1970.
منذ اليوم الأول لتوليه المسؤولية، عمل السادات على تجهيز البلاد والقوات المسلحة للحرب، فانتهج خطة محكمة للخداع الاستراتيجي تمثلت في إقناع العدو بعدم جدية مصر في اتخاذ قرار الحرب، ودعم ذلك بعدة جولات في الأمم المتحدة ومعظم دول العالم للتغطية على استعدادات مصر للحرب، حيث عرض خلالها موقف مصر سعيًا للسلام وعدم اللجوء للعمل العسكري شريطة انسحاب إسرائيل إلى حدود يونيو 1967، مؤكدًا في رسالته للعالم أنه لا يريد الحرب.

لكن في حقيقة الأمر، كان السادات يعمل منذ الوهلة الأولى على جميع الأصعدة، محليًا وإقليميًا، للتجهيز لحرب الكرامة والعزة، واستطاع أن يوحد القوى العربية في تحالف واحد قوى والتنسيق معهم على تنفيذ الحرب واستعادة الأرض.
داخليًا، اتخذ السادات قرارات مصيرية حولت الاقتصاد المصري إلى اقتصاد حرب، ما يعني تعبئة جميع المصانع ومنتجاتها لاستيفاء احتياجات القوات المسلحة أولًا، كما لجأت مصر ضمن خطتها في خداع العدو إلى توقيع تعاقدات دولية لتوريد السلع الاستراتيجية مثل القمح على مدد زمنية غير منتظمة حتى لا تلفت انتباه العدو إلى أن الدولة تقوم بتخزينها، وقد تم تحقيق الاحتياطي اللازم من هذه السلع ليكفي احتياجات الدولة لمدة 6 أشهر قبل الحرب مباشرة، وعندما اطمأن السادات على أن مصر أصبحت جاهزة ولديها احتياطيات استراتيجية من المواد التموينية، وتأمين مصادر الطاقة والمياه، ومعنويات الشعب أصبحت تتقبل الدخول في معركة وما يصاحبها من تضحيات، لم يتردد في إصدار أمر القتال.

على الجانب الاستخباراتي، أمر السادات بتكثيف الجهود الاستخباراتية لمواجهة عملاء وجواسيس إسرائيل الذين كانوا يعملون لحسابها إما في مصر أو إسرائيل، وقد كثفت المخابرات العامة جهودها ونجحت في إسقاط عدد كبير منهم، وكانت أخطرهم الجاسوسة هبة سليم، كما أن المخابرات العامة المصرية لم تقف عند حدود مطاردة الجواسيس فقط، وإنما نجحت في تجنيد 10 عملاء لها داخل فرق الجيش الإسرائيلي الموجودة بخط برليف.
على الصعيد العسكري، استكمل السادات مشروع بناء القوات المسلحة وتكوين قيادات ميدانية جديدة، والذي بدأه الرئيس عبد الناصر، وإدخال نظم تدريب على كل ما هو أساسي للحرب، وكذلك التدريب على مسارح مشابهة لمسرح عمليات الحرب، فتم إنشاء سواتر ترابية مماثلة لخط برليف على ضفة النيل وتدريب القوات على عبورها.

كما أمر السادات بتجهيز القوات المسلحة للحرب بكل ما هو حديث في تكنولوجيا التسليح، وتطوير أسلحة المشاة، واستبدال الدبابات القديمة بالجديدة، وإحلال المدفعية القديمة بأخرى متطورة، والدفع بطائرات حديثة، وإدخال طرازات جديدة من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، إلى جانب الصواريخ طويلة المدى وكذلك تطوير معدات المهندسين العسكريين وأجهزة الكشف عن الألغام وإدخال أسلحة غير تقليدية ابتكرها مهندسون مصريون، مثل قاذفات اللهب المحمولة على الأكتاف ومسدسات المياه التي استخدمت في هدم خط برليف.
في يونيو 1972 قرر السادات إنهاء وإعفاء مهمة الخبراء السوفييت في مصر وترحيلهم، حتى تكون الحرب القادمة مصرية خالصة، وهو القرار الذي أثبت فيما بعد بُعد نظر السادات وسلامة رؤيته.
في أكتوبر 1972، عرض الفريق أول محمد أحمد صادق، وزير الحربية آنذاك، خطة العملية "جرانيت 1" على الرئيس السادات، وهي خطة لحرب محدودة، تقوم بالأساس على تنفيذ إجراءين: إسقاط لواء مظلات مصري في سيناء، والذي يقوم بتنظيم الدفاع عن الأرض التي استولى عليها، إلى جانب هذا تقوم حوالي 50 طائرة قتال مصرية بمهاجمة شرم الشيخ، وكرد فعل ستحاول إسرائيل القضاء على لواء المظلات، وتسرع مصر إلى مجلس الأمن، لإعلان وقف إطلاق النيران.
لكن السادات لم يرتح لهذه الخطة، فهو كان يريد حربًا شاملة وليس حربًا محدودة، لذا أصدر قرارًا مصيريًا جديدًا بتعيين الفريق أحمد إسماعيل محل الفريق صادق، وبالفعل قدم أحمد إسماعيل إلى السادات خطة عبور شاملة، تحت مسمى العملية "جرانيت-2"، التي من شأنها أن تحقق نتائج أفضل بكثير من الحرب المحدودة، ووافق السادات، على التخطيط لعملية عبور واسعة النطاق، على مواجهة قناة السويس بالكامل، وكان يتابع تطوير الخطة "جرانيت -2" بنفسه مع الفريق أول "أحمد اسماعيل".

كان أيضًا دائم الزيارات للجيوش الميدانية والقوات الخاصة سواء كانت الصاعقة أو المظلات، في أكثر من مناسبة، حتى يطمئن على الاستعداد القتالي لهذه الوحدات.
خلال هذه الفترة، أشرف الرئيس أنور السادات شخصيا على خطة التنسيق بين جهات عدة وهى وزارات الإعلام والخارجية والدفاع لتطبيق خطة الخداع، حيث تم نشر أخبار سلبية عن الوضع الاقتصادي وتصدير فكرة أن مصر لا يمكنها خوض أي معارك، وليس أمامها خيار آخر سوى القبول بحالة السلم.
وأصدر في يوليو 1972 قرار بتسريح 30 ألفًا من المجندين منذ عام 1967، وكان كثير منهم خارج التشكيلات المقاتلة الفعلية وفى مواقع خلفية، وفى الفترة من 22 وحتى 25 سبتمبر تم الإعلان عن حالة التأهب في المطارات والقواعد الجوية بشكل دفع إسرائيل لرفع درجة استعدادها تحسبا لأى هجوم، ولكن أعلنت القوات المصرية بعد ذلك أنه كان مجرد تدريب روتيني، واستمرت القوات المصرية تطلق تلك التدريبات والمناورات من وقت لآخر حتى جاءت حرب أكتوبر وظنت إسرائيل في بدايتها أنها مجرد تدريب أيضا ولم تكن مستعدة لها.
في شهر مايو 1973 بدأت مصر تستعد للهجوم، وكان كل تركيز السادات في ذلك التوقيت على استكمال إعداد الجيش، والتنسيق مع السوريين للانضمام للحرب، مع استكمال خطة الخداع لتمويه العدو.
كان من ضمن خطة الخداع الاستراتيجي التي وضعها الرئيس السادات، تعمد تكرار إجراء التعبئة العامة والاستدعاء ثم تسريح القوات، ما جعل القيادة الإسرائيلية تترد كثيرًا في إعلان حالة الاستعداد القصوى إزاء كل تعبئة تقوم بها مصر والقيام بعملية تعبئة كاملة للقوات قبيل بدء الحرب.
في يوليو 1973 أمر السادات بتسريح دفعة أخرى من أفراد القوات المسلحة، ثم أعلن في سبتمبر 1973 فتح عمرة رمضان للضباط والجنود، ليبعث رسالة للعدو بأنه لا ينوي الحرب، لكنه في نفس الوقت كان يجرى في سرية تامة تنسيقًا كاملًا على المستويين السياسي والعسكري، بين مصر وسوريا والأردن.
في 15 سبتمبر 1973، بدأت أولى خطوات حشد القوات على جبهة القتال على امتداد الشاطئ الغربي لقناة السويس من السويس حتى بورسعيد.

وفي 30 سبتمبر، اجتمع مجلس الأمن القومي برئاسة الرئيس السادات، لتنسيق الإجراءات على مستوى الدولة في حالة قيام حرب. وكان السادات صاحب قرار اختيار ساعة الصفر لخوض الحرب، في الثانية ظهرا يوم العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر، وهو أحد أدهى قراراته، لأن العدو لن يخطر بباله أن الجيش المصري سيخوض الحرب في شهر رمضان وفى أكتوبر تحديدا، كما أن يوم 6 أكتوبر يوافق عيد الغفران اليهودي، أما اختياره لوقت الظهيرة فكان ذكيًا أيضًا، حيث تتعامد الشمس فوق رؤوس العدو بشكل يصعب عليهم الرؤية، وهذا شيء لم يتوقعه العدو حيث إن العمليات العسكرية تكون مع أول ضوء أو آخر ضوء.
في يوم 6 أكتوبر، وقف السادات في غرفة العمليات ليتابع تطورات الوضع، حتى جاءت لحظة رد الاعتبار في الساعة 2.05 وبدأت حرب التحرير التي أفقدت العدو توازنه وعبرت القوات في 6 ساعات، وتم إسقاط أكثر من 120 طائرة بواسطة قوات الدفاع الجوي المصري.

وفي 16 أكتوبر 1973، وقف السادات أما مجلس الشعب ليلقي خطاب النصر الشهير، الذي سيظل عالقًا في ذاكرة المصريين حتى يرث الله الأرض وما فيها، متفوهًا بأعظم كلمات في تاريخ مصر الحديث، ومعلنًا عن أعظم وأروع انتصار لمصر وشعبها وقواتها المسلحة.



