أسرار العلاقة بين التاريخ والرواية الحديثة
في الفترة الأخيرة ظهرت روايات كثيرة تلجأ إلى التاريخ كمصدر للعالم الروائي المقدم، بعضها يرصد فترات تاريخية بعينها، وأخرى تمزج بين حكايات تاريخية، وأخرى معاصرة ترصد التشابهات والاختلافات بين الماضي والحاضر، وعمومًا يظل التاريخ مصدرًا مهمًا للروائيين، والأدب بشكل عام، ولكن ما هي الحدود الفاصلة بين التاريخ والأدب، أو بين عالم محدد بإطار تاريخي، وآخر تخيلي، ولماذا يلجأ الروائيون إلى التاريخ، وماذا يريدون من قراءته وتقديمه مرة أخرى في أعمالهم؟
هذه الأسئلة المهمة جدًا يجيب عنها الدكتور الناقد عادل ضرغام أستاذ النقد الأدبي بكلية دار العلوم في كتابه "الرواية والتاريخ.. من التاريخ إلى الهوية"، والصادر عن الهيئة العامة للكتاب ضمن سلسلة دراسات أدبية، الذي يحاول فيه مساءلة التحولات التي ظهرت في العقود الأخيرة في الرواية التاريخية، وطبيعة تمددها انطلاقًا من لحظة حضارية ذات خصوصية.
وقد استعان د. عادل ضرغام بتحليل عدد من الروايات التي صدرت حتى يجيب عن الأسئلة السابقة مثل رواية ليون الإفريقي لأمين معلوف، ورواية العلامة للمغربي بن سالم حميش، ورواية الأزبكية لناصر عراق، ورواية البشموري لسلوب بكر، ورواية الموريسكي للمغربي حسن أبو ريد، ورواية كيميا ربيبة شمس الدين التبريزي لوليد علاء الدين، ورواية العمامة والقبعة لصنع الله إبراهيم، ورواية شغف لرشا عدلي، ورواية رواق البغدادية لأسامة السعيد.
ويبدأ د. عادل كتابه المهم بمقدمة عامة حول الرواية التاريخية، وما هي حدود التقارب بين التاريخ والأدب، مشيرًا إلى أن هناك تداخلًا بين التاريخي والخيالي يجعل من الرواية التاريخية نوعًا فرعيًا معقدًا، فالصعوبة بالنسبة لكاتب الرواية التاريخية تتمثل في إيجاد نوع من التوازن المستقر بين العناصر التاريخية والشخصيات الخيالية المخترعة دون أن يغرق جانب منهما الآخر، مشيرًا إلى تعدد الآراء في هذا الشأن بين النقاد والباحثين، مع مراعاة أن الرواية التاريخية الجديدة لا تسجل التاريخ بوصفه حقيقة تاريخية بل تخضعه هذه الرواية للمراجعة والمعاينة، وفق وجهة نظر ناقدة قد تحرف هيمنته، أي بمعنى إعادة تفسير هذا التاريخ.
ويؤكد د. عادل ضرغام في كتابه أن الرواية التاريخية، لا تعيد الخطاب التاريخي بل هي تشتبك بالتاريخ، لكي تقول ما لم يقله أو يتوقف عنده، مضيفًا أن الرواية التاريخية الحديثة تهتم بالفجوات التي أهملها التاريخ وتحاول تشكيلها وفق المعطيات التاريخية التي تم الاتفاق عليها، ومن هنا يحدث الجدل بين التاريخي المرجعي والمتخيل.
وإجمالًا فإن الرواية لا تعيد كتابة التاريخ، وإنما هي كما يقول أتون ينصهر فيه العنصر التاريخي مع عناصر أخرى تسهم جميعًا في بناء الكون التخيلي للرواية، كما أن الوقوف عند الشخصيات المهمشة أو غير الرسمية في التاريخ تساعد الروائي للكشف عن التاريخ المخبوء، وتدعوه إلى خلق تفاصيل لهذا الهامش من خلال التخيل.
ويرى د. ضرغام أن الروائي لا يعود للتاريخ من أجل العودة إلى الماضي وليس بالطريقة التقليدية، وإنما من أجل مساءلة فرضية آنية، يحاول التأكد من تجذرها في سياقه القديم، ومن خلال هذه العودة يحاول الإجابة عن هذه الفرضية التي قد تتعدد إلى إشكاليات عديدة تحيط بالإنسان المعاصر.
وفي خمسة فصول يناقش د. عادل ضرغام علاقة الرواية بالتاريخ، والمعاني والمفاهيم والقيم التي أرادت اقامتها بينهما. ويقول لنا إن المتأمل للرواية التاريخية في العقود الأخيرة يدرك أن هناك تحولًا لافتًا إلى حد بعيد يتمثل في كون هذا النوع الأدبي بدأ يأخذ شكلًا جديدًا، يتمثل في كون التاريخ في الرواية لم يعد مقصورًا على طبقة الحكام أو الطبقة العليا، وإنما أصبح مشدودًا للبسيط والعادي والهامشي، واهتمام الروائي المعاصر بتلك الطبقات جعل الجزء التاريخي أو الواقعي المسجل يفقد فاعليته، ومن هنا كانت الحاجة ملحة لكاتب الرواية التاريخية إلى الاختراع فيبدو عمله الأساسي انطلاقًا من دراسة العصر سياسيًا وثقافيًا وحضاريًا قائمًا على إكمال الفجوات، من خلال خلق شخصيات غير موجودة في الحقيقة، كما تحولت الرواية من حكاية للتسلية إلى تقديمها حالة معرفية منفتحة على الإنساني في مداه الرحب غير المحدود بزمن.
ويؤكد أستاذ النقد الأدبي أن الهوية باتت ملمحًا أساسيًا في الروايات التاريخية الحديثة؛ حيث يبقى وجودها صلبًا في المركز المشدود للتاريخ، وكذلك هناك تأكيد على العلاقة مع الآخر، ووضع المرأة وحقوقها في زمن ما وربطه بوضعها ف اللحظة الحاضرة، ومسألة الحاضر من خلال الرجوع إلى التاريخ، ومفهوم هوية الوطن وإعلائه على أي انتماءات أخرى.
كما تهتم الرواية التاريخية المعاصرة بالعلاقة بين المثقف والسلطة، وموضوعات أخرى عديدة ترتبط بالإنسان وبالذات المهمشون والعاديون.
وأخيرًا.. ربما جاوب كتاب "الرواية والتاريخ.. من التاريخ إلى الهوية" لعادل ضرغام عن أسئلة مهمة. وإن كان بدا لي أن وراء كل تلك الاهتمامات من الروائيين، والتي كانت بارزة في أعمالهم التي تسلط الضوء على التاريخ وحكاياته، وكأنها تحاكم الحاضر اجتماعيًا وثقافيًا وحضاريًا.



