طقوس واحتفالات استطلاع هلال رمضان من 150 سنة
استرجعت مجلة "روزاليوسف"، من 50 عامًا مظاهر استطلاع هلال شهر رمضان المبارك منذ 150 سنة، والاختلاف الذي ظهر وقت كتابتها التقرير الذي جاء فيه:
لم يحظ شهر من الشهور، في أي عصر، وفى أي بيئة أو أمة، بمثل ما حظي ويحظى به شهر رمضان، من شهرة وحفاوة وعزاز وتمجيد وتكريم، ولعل السبب في ذلك أن مراسيم الاحتفال قد جاوزت المألوف في الاحتفال بالأشهر أو الأيام أو المناسبات الأخرى، فلم تقتصر على الابتهاج بالذكرى، أو إقامة الصلوات أو الشعائر، وإنما جاوزت هذا كله إلى تغيير نظام الحياة اليومية بأكمله، وقد حفظت مصر لهذا الشهر مجموعة كبيرة من العادات والتقاليد، ظلت تنمو مع الزمن، وتتطور مع العصور، حتى وصلت إلى ما نعرفه اليوم من ألوان الحفاوة والتكريم لهذا الشهر المبارك.
ولعل عصر السرعة قد التهم الكثير من عنايتنا بهذا الشهر، ومع ذلك فقد بقيت الصورة الفاتنة لليالي الساهرة العامرة، وبقيت الفوانيس الملونة في أيدي الصغار، وبقيت الأناشيد الحلوة في أفواههم، وبقي " المسحراتى" بالبازة وصوته وهتافه وتحياته البهيجة مستقبلا الشهر الفضيل، ودعائه المؤثر مودعا إياه، ولو عدنا مائة عام إلى الوراء، لوجدنا صورة رائعة في سذاجتها لحفاوة المصريين بهذا الشهر، الذي أريد له أن يعرف باسم رمضان الكريم،هذه هي الليلة الأولى من ليالي رمضان.
إن رمضان لم يثبت بدؤه بعد، فلابد من رؤية الهلال لذلك، ولكن بشائره الشعبية قد بدأت تزفه إلى الناس، فالجموع لمتراصة تتجه نحو بيت القاضي جموع تنتظر كلمة القاضي لتبدأ الشعائر المحبوبة ويهنئ بعضهم بعضا، وبين الجموع، تناثرت فرق المزمار البلدي وطوائف "الذكيرة" والدراويش والباعة السريحة، باعة اللب والترمس وسقاة الماء، وهاه أصواتهم تتصايح بين الجموع:
“يا مسلي الغلبان -يا لب.. عطشان سبيل”
الورد كان شوك من عرق النبي فتح، هؤلاء جميعا في انتظار عودة الموكب التقليدي الكبير موكب الرؤيا، فمنذ الصباح والاستعدادات الكثيرة لهذا الموكب قائمة على قدم وساق، يشرف على تنفيذها المحتسب، ويتولى قيادتها العليا، القاضي الأكبر، أو يمضي الموكب إلى الصحراء.
شيوخ الطرق الصوفية، كالسادة الأشراف “وهم سلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم”، والبكرية “وهم سلالة أبى بكر الصديق”، والعناينة، “وهم ذرية عمر بن الخطاب”، وطوائف الدراويش الرفاعية وذوي العمائم الخضر والرايات وهؤلاء الذين يأكلون النار ويبتلعون المسامير.
ويتبع هؤلاء الدراويش القادرية براياتهم وعمائمهم البيضاء، ثم الأحمدية براياتهم وعمائمهم الحمراء، بعد هذه الفرق، تسير الطوائف من أصحاب الحرف وشيوخهم، بين فرق المشاعل والنظام، ويظل الموكب سائرا بطبوله ومزاميره وأناشيده المختلفة حتى يصل إلى بضعة فراسخ من الصحراء.
فإذا رؤى الهلال، عاد الموكب وقد تجمع الناس على جانبي الطريق، وأمام بيت القاضى، ويدخل العلماء والشهود إلى قاضى القضاة، ثم يخرج المحتسب فيهتف بالناس: يا مسلمون، لقد أقبل الشهود، والميقاتي حضر، ظهر الهلال، وانتهت الرؤية".
وتنطلق الأصوات، أصوات العائدين إلى بيوتهم، يبشرون الناس:
صيام، صيام، يا أمة خير الأنام
صيام، صيام، على ما حكم قاضى الإسلام، هكذا كان الناس يستقبلون أول ليلة من ليالي رمضان الكريم، فإذا كان الصباح، فقد ساد الهدوء على الشوارع والطرقات، وبدأت الحركة والإعداد في داخل الدور.
هذه الأطعمة تعد، والموائد تمد، والقلل النقاوى تملأ وتوضع في المشربيات والتين والبلح يبلان ليكون منهما شراب الفطور، وكرسى العشاء يعد في "التختبوش" لرب الدار ومن معه من الضيوف، فإذا حل الإفطار عند المغرب، أفطر الناس، ومضى الرجال يدخنون الشيشة في انتظار صلاة العشاء.
وتقام الصلاة، ويعود الناس إلى سمرهم اللذيذ حتى يأتيهم صوت المسحراتى، وطرقاته التقليدية على الباز، ولم يكن المسحراتى، في ذلك الزمان يقتصر على تنبيه النائمين، فقد كان غالبا يتلو شيئا من قصة الإسراء والمعراج مقابل «عشرة فضة " وكان أحيانا يسترضى بعض النساء ينادينه من خلف المشربيات، فيقص عليهن -بالطلب -حكاية " الضراير» مقابل "خمسة فضة".
وكان يمر في كل ليلة مرتين، الأولى للتنبيه بالسحور، والثانية للتنبيه بالرفع، وكان الناس يظلون على هذه الحال عشرين يوما، فإذا كانت العشرة الأخيرة من الشهر كان الرجال يعتزلون ويعتكفون في مسجد السيدة زينب أو مسجد سيدنا الحسين.
وكانت الليلة الأخيرة من رمضان تنفرد بتقليد خاص لم يعدله اليوم وجود، فقد كان الناس يعتقدون أن الشياطين تهرب من الأرض طيلة رمضان، إذ لا تجسر على الدخول في بيوت الصائمين، وكانوا يخشون وقد انتهى هذا الشهر أو قارب الانتهاء، أن تعود الشياطين إلى بيوتهم، ولهذا لم تكن الليلة الأخيرة تقبل، إلا وقد اجتمع الأطفال في كل بيت، فجمعوا الأواني النحاسية وأخذوا يطرقونها طرقا موقعا، وهم يتصايحون:
"يا حديد ابعدها بعيد"
بهذا النداء كانوا يتوسلون لطرد الشياطين عن بيوتهم، ومن هذا النداء، تطورت العادات والتقاليد حتى أصبح الأطفال في أيامنا هذه يتصايحون في الليلة الأخيرة من الشهر: " يا برتقان أحمر وجديد بكره الوقفة وبعده العيد.



