الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

المستشار عادل رفاعي يكتب: المشهد الأخير

بوابة روز اليوسف

حل الموت ضيفا ثقيلا على بلدتنا البارحة، ليقتطف روحين وينهي وجودهما من دنيا البشر، الأول غني قوي بسط الله له كل أسباب الوجاهة والصدارة، كان ملء السمع والبصر حاضرًا على الساحة الاجتماعية بقوة تشابكاته وإمساكه بمعظم أوراق لعبة الحياة إمساك الذكي الأرب، فنال مكانة عالية لدى أهل وطنه وفي محيطه المجتمعي، إذا كان لبقا مفوها يملك الحجة البالغة والرؤية الثاقبة ورجاحة العقل والذكاء الفطري، مما أهله لاعتلاء سدة المجالس العرفية وامتطاء صهوتها، فكان له ولأحكامه من القبول لدى المحتكمين إليه ما لا حد له، وصال وجال في ميادين عدة مختلطة مختلفة متنوعة ليكون من خلالها بطل المشهد الرئيس، ومحرك الأحداث فيها، بما يريد وبما يشتهي، وفتحت له الدنيا أحضانها ومنحته من كل غال ونفيس كما لم تعط أحدًا قبله فصار مضرب الأمثال ومحط الأنظار، وحديث العامة والخاصة، رزق وفير المال والذرية والعائلة العريقة، ونال شهرة واسعة وذاع صيته واستطاع في فترة قصيرة أن يتبوأ مكانا عليا في مجتمع لا يعترف إلا بالقوة، التي حاز في براعة فائقة كل أسبابها وملك كل مفاتيحها حتى إنه لم يترك بابًا يوصل إليها إلا طرقة، فأصبح ممن يشار إليهم بالبنان، وأضحت إشارة من يده تمنح وأخرى تمنع وأصبح قبلة لكل عاشق لحياة القوة بكل مفرداتها من كل طبقات المجتمع، فتقاطروا عليه زرافات ووحدانا يحجون إليه ليل نهار يحملون بين دفتي صدورهم أحلام القوة وأبصارهم شاخصة إليه ينتظرون المعونة تارة والتوجيه تارات أخرى.

 

وفي هدأة الليل جاء الضيف الثقيل ليفجعه بسيف المنايا دون روية، وبغير أن يمنحه فرصة الاستعداد للرحيل أو المراجعة أو تصحيح المواقف، فأورده حياض الموت على حين غرة، ليقف الجميع من كل حدب وصوب مشدوهين من هول المفاجأة فودعوه في مشهد مهيب يخلع القلوب والألباب، وقد ودّع الأهل والصحاب والمال والقوة والسلطان والصدارة والوجاهة، وفي ذات اللحظة قام الضيف الثقيل ليختطف روح شاب فلاح بسيط خرج إلى الدنيا ليحيا على هامشها دون ضجيج، لا تكاد تشعر به أو تحس بوجوده، لا يجد الكفاف ولا يملك من أسباب القوة حتى أدناها، عاش يعارك الدنيا وتصارعه بدورها ليحيا بحق، فصلا من فصول الشقاء الإنساني، لكنه تفرد بابتسامة عريضة كانت تملأ وجهه، رضا وطمأنينة ترى صدق نيته في وجهه إذا نظر إليك كما يريك الحق صدق فكره إذا نطق، كان هادئ البال مطمئن النفس وكأنه قد هبط إلى أرضنا من كوكب آخر شاء الله أن تكون نهايته وهو واقف يتبتل في مسجد قريته بصلاة الجمعة، ففاضت روحه إلى خالقها، وقد ارتسمت على وجهه ذات الابتسامة العريضة التي كان يزين بها وجهه فرحل بغير ضجيج، كما بدأ وقد لقي الله مبتسمًا فمن منهما الرابح ومن منهما العبقري؟! أم أنهما كانا عبقريين؟! لعل الأقدار أرادت أن يكون المشهد الأخير بلقائهما بعد أن أبت أن تجمعهما في شيء وهما على قيد الحياة، ولو على سبيل الصدفة القدرية، لكنهما الآن يجتمعان في آخر سطر من قصة حياة كل منهما التي كتبها القدر بقلم أزلي مسموع الصرير مرهوب النفير، وما أعجب اللقاء إذ ذاق كل منهما طعم الموت وضمهما القبر من غير تمايز، وأهيل عليهما من ترابه وأغلق عليهما بإحكام شديد لتنطوي صفحة كل منهما ليواصل حياته البرزخية وحيدا فريدا حتى ينبلج فجر القيامة ليراه رأي العين ويحضر مراسم حسابه فينشر ديوانه وينصب ميزانه لا يصطحب معه سوى عمله، الذي قدمت يداه لا غير،  فما الذي جمع بين الاثنين؟  

 

كل منهما دخل مجردا من الدور والقصور والأموال والسلطان والضياع والوجاهة والأهل والذرية، فلا هيل ولا هيلمان ولا صول ولا صولجان، ليس إلا العمل صاحبا، ترى هل لو عاد أحد منهما إلى الدنيا فإلى أي فعل سيسارع وأي أوضاع سيصحح وأي مواقف كان سيتخذ؟ حقا إنها دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له فهل من معتبر؟!

 

اللهم يا ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد أسألك لهما ولنا الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود إنك رحيم ودود وأنك تفعل ما تريد.

تم نسخ الرابط