

بقلم
عصام ستاتى
نساء صنعوا النصر فى بور سعيد الباسلة
12:00 ص - السبت 21 ديسمبر 2013
بقلم : عصام ستاتى
عندما قام العدوان الثلاثى على بور سعيد فى 1956 لم يكن هناك منفذ لدخول الأسلحة وأفراد المقاومة من غير أبناء بور سعيد مثل أعضاء حدتو والضباط الوطنيون إلا عن طريق بحيرة المنزلة .
بدأوا بإدخال بعض العناصر الجيدة إلى المدينة وكانت الوسيلة هى الاتفاق مع الصيادين الذين يعرفون بحيرة المنزلة شبراً شبراً ومن كانت لهم صلات أنشطة سابقة فى معارك 51،كان المظهر الذى يختفون تحته هم أنهم مهربون يهربون المؤن لبيعها بأثمان عالية فى المدينة استغلالاً لحاجة الجماهير لها وفى نفس الوقت تقديم رشوة وخلق علاقات مع نقاط الحراسة التى تحاصر المدينة وكان المدخل الأساسى عن طريق عزبة فاروق .
وفى نفس الوقت قام بعض الفدائيين بمسح الجزر الصغيرة المتناثرة فى بحيرة المنزلة لاتخاذها نقاط مراقبة لمعرفة تحركات العدو ورصد حركات بعض الذين يحاولون التعاون مع المحتل ، واتخاذها مخازن لبعض البضائع التى يهربها الوطنيين لبور سعيد ومعها بعض الاسلحة الصغيرة
وكان لابد أن ينتهى ذلك بأعداد مركز لهم فى بور سعيد قريب من البحيرة ، حيث يتخذوا منه مكاناً لاستقبال المشاركين الجدد الذين يدخلون من المطرية إلى بور سعيد ، حيث يغيرون ملابس الصيادين التى كانوا يلبسونها وارتداء ملابس عادية تجعلهم ينخرطون فى وسط السكان بشكل عادى ، كان هذا المركز منزل أم سعيد الضو البمبوطى والذى كان يعمل قبل ذلك فى طلاء السفن ، سيدة ضخمة الجثة مفرطة فى السمنة تخطت الستين تجلس أمام منزلها الطينى فى أطراف بور سعيد قرب عزبة فاروق ترعى فى جلستها قليلا من البط تخرط له الخيار وبعض حزم البرسيم من يراها يظن أنها جزء ثابت من المكان أو أنها تمثال جالس لا حراك فيه .
ما أن يصل إليها أى إنسان ويسألها عن أسم شارع متفق عليه ولا وجود له حقيقى حتى تتحرك فيها حركة يقظة وتخرج عليه علبة سجائر ومشط كبريت وتبدو كما لو كانت تساومه فى الثمن لم تكن مساومات وأنما كانت شرحاً له إلى أين يتجه ومن سيكون فى مقابلته وفى بعض الأحيان كانت تشير على البعض أن يدخل من باب خلفى ليغير ملابسه ويتسلم منها سلاحاً أو رسالة ، سيدة مصرية عظيمة مثل الآلاف من نساء مصر ممن يمكن أن يلعبوا دوراً عظيماً . عندما تذكرها تذكر بعض أسماء مصريات بارزات هدى شعراوى وغيرها ولكن التاريخ عادة لا يقف بباب الفقيرات لا صحافة تبرزها لا ثقافة تقدمها للجماهير لا أسرة تعتز بإنتسابها إليها من الأرض أتت وفى الأرض عاشت وللدفاع عن أرضها رصدت حياتها وأنجبت لها سعيد الضو وأخوه مصريون سمر عمال فيهم جسم العامل وبساطته ورؤيته الصادقة الواضحة .
أم الضو قامت بأعمال كثيرة .. منها تهريب مستندات ووثائق لمحافظة الشرقية وتبدأ القصة
سعيد الضوّ .. الصبى الصغير .. الذى يعمل على مركباً صغيراً في بحيرة المنزلة للصيد .. والمركب له هو وأمه التي تنتظره كل مساء عند المغرب بالقابوطى لبيع غلة صيادة اليوم .. يترك مهنته .. ويحصر عمله في تهريب الفدائيين من المطرية دقهلية الى بورسعيد عبر البحيرة .. وتهريب بعض الأشياء المهمة ( أوراق وخلافه ) من بورسعيد الى المطرية حسب رؤية الضباط الوطنيون الذين كانوا منخرطين في المقاومة ببورسعيد .. أو تقوم– أم الضوّ – بحمل هذه الأشياء داخل ملابسها وتعير بها الى محافظة الشرقية وتسلمها للمسئولين على الجهة الأخرى .
أم الضوّ التي تستقبل الفدائيين الشباب ( حبات عين أمهاتهم ) بمنزلها الطيني بالقابوطى .. التي صنعت شبابيكه من خشب الصناديق – حسب شهادة أحمد الرفاعى – وتصنع لهم الطعام والشاى .. وتغطيهم بالأغطية من صوف الغنم من برد الشتاء .. وتحارب مياه الأمطار التي تتسلل من سقف البيت ، حتى لا توقظ الشباب المسكين " الضعيف " الذى ترك أسرته وبيته في القاهرة وغيرها ليحارب معركة مدينتها بورسعيد .. ومنهم هؤلاء الشباب " الحبوبين " .. والبنت الصغيرة التي تركت منزلها والتحقت بحبيبها وخطيبها بمدن القناة البعيدة – أمينة شفيق وعبد المنعم القصاص . والشباب والشابة الذين ظلوا على الشاطئ الآخر بالمطرية يقضون ثلاث أيام بلياليهم متوالية يبكون ويستعطفون سعيد الضوّ حتى ينقلهم الى بورسعيد .. نظراً للضعف البادى على أجسامهم ( أحمد الرفاعى سعد رحمى ، وعبد المنعم شاتيلا .. وغيرهم ) وشدة برد هذه الأيام ، الى أن رق قلب سعيد لهم في نهاية الأمر ، ورضخ لاستعطافهم ، ونقلهم الى بورسعيد ، بعد أن ألبسهم ثياب صيادين ، وحملهم "بزنابيل" السمك ومروا من تحت أعين الإنجليز ، وبوابات تفتيشهم . ورافقهم حتى انضموا الى زملائهم بعزبة فاروق ولحقته أمه بالعشاء ، ونوبات البرد التي انتابتهم ، ورعشة الحمى التي ركبت سعد رحمى ، والتى سهرت أم الضوّ بجانبه طوال أيام المرض .
ولم يهرب سعيد الضوّ فدائيو اليسار المصرى فقط الى بورسعيد ن ولكنه شارك في تهريب ضباط " الحكومة " اليها ، منهم الضباط محمد أبونار ، وكمال رفعت وكمال الصياد ، ومحمد منير موافى الضابط بالجيش وعضو فى حدتو فى نفس الوقت .... وغيرهم .
أما أم على وهذا أسم شهرتها ولكن اسمها الحقيقى فتحيه الأخرس على سيدة عادية مثلها مثل بنات كثيرة كانت موجودة فى بور سعيد كانت تعمل ممرضة فى عيادة خاصة تقع بجوار مسجد الرحمة ، وقد حولت العيادة إلى لتكون مأوى أمن للفدائيين وكان ذلك بالاتفاق مع قائد المقاومة الرائد مصطفى كمال الصياد بإن تأوى الفدائيين وأسلحتهم داخل هذه العيادة ليختفوا فيها بالنهار وينتشروا فى المدينة فى المساء وأثناء حظر التجوال ليذيقوا العدو الويل كل الويل فألبستهم ملابس المرضى البيضاء وأخفت أسلحتهم أسفل مراتب الآسرة التى يرقدون عليها ، وكانت تقوم بخدمتهم ، بل أمتد نشاطها إلى إحضار ونقل الأسلحة لهم من قريتها ( القابوطى ) قرية صيادين على بحيرة المنزلة فتقوم أم على بنقل الأسلحة المهربة لبورسعيد عن طريق صائدى الاسماك من بحيرة المنزلة .
وفى أحد الأيام سمعت أم على طرقاً شديداً على باب العيادة الخارجى فأحست أن هناك تفتيشاً دورياً من القوات المعتدية على منازل المدينة فقامت بتنبيه الفدائيين فأخذ كل منهم مكانه فوق سريره وارتدوا الملابس البيضاء الخاصة بالمرضى وتظاهر كل منهم أنه مريض وقامت بمنتهى الثبات والشجاعة بفتح باب العيادة وتظاهرات أمام قوات الإنجليز أن أحد المرضى بالعيادة مات وأخذت تصوت وتهلل وطلبت منه المساعدة وإبلاغ القوات المصرية المسئولة لدفنه وشرب الإنجليز المقلب وأمر قائدهم جنوده بالانسحاب دون تفتيش للعيادة ليتركوها وشأنها وما أن أغلقت باب العيادة حتى عاد الميت للحياة والتف الفدائيون حول أم على يهنئونها على شجاعتها وحسن تصرفها .
نساء بسطاء صنعوا النصر ولم يذكرهم أعلام أو مؤرخين وهذا لأننا لم نقوم بكتابة تاريخنا الشافهى تاريخ الشعوب لا تاريخ الحكام والسلاطين ، وأن هناك المئات من أم الضو وأم على ضحوا فى سبيل الوطن ، وكما يحدث فى سرقة التاريخ ونسيان دور البسطاء بشكل عام والنساء منهم بشكل خاص ورغم هذا التجاهل والنسيان فإن ذاكرة الشعوب لا تموت وتنقل من أجيال لأجيال . .
تابع بوابة روزا اليوسف علي