

د. حسام عطا
بياتريس بافيز ونظرية التلقي
يبقى الباحث والناقد حقاً في أثره المعرفي، وقد غادر القاهرة بعد تكريمه بمهرجانها الدولي للمسرح التجريبي الناقد الفرنسي الكبير صاحب البصمة النقدية المعاصرة في النقد المسرحي وفي مناهجه المعاصرة، وعلى الأخص علم الدلالة "السيميولوجي" بياتريس بافيز.
وحضوره في القاهرة كان قد تحدد في جلسة معه في المحور الفكري للمهرجان، أجاب فيها إجابات سريعة في صباح السابع من سبتمبر الجاري 2025.
بينما يبقى التساؤل حقاً في غياب التفاعل الأكاديمي مع حضوره بشكل ملحوظ، فقد كانت زيارته للقاهرة حقاً بمثابة زيارة مفكر كبير معاصر له وزنه الدولي، ذلك أنه أحد أبرز المساهمين في علم الدلالة، وهو كعلم نقدي يتجاوز النقد المسرحي إلى كونه أحد أدوات التفكير المعاصر.
إلا أن بافيز بدا لي كمعظم المفكرين المسرحيين الكبار شخص يتألق ويتوهج عندما يفكر ليكتب، وربما يصبح حضوره الشخصي في القاهرة سبباً لاستعادة لفت الانتباه لأهمية منجزه النقدي على الصعيد العام وعلى الصعيد التخصصي.
إذ إن فهمه لعلم الدلالة يساهم في قراءة عملية ليس فقط للمسرح، ولكن للخطاب السياسي وحركة الشارع، وتداخل الصور الافتراضية مع الصور الحقيقية اليومية وغيرها من المشاهد اللانهائية كل يوم.
ذلك أنه صاحب منجز مهم في علم الدلالة، وقد تمت ترجمته إلى معظم لغات العالم ومنها اللغة العربية، وتفاعل مع منجزه عدد كبير من الأكاديميين المصريين العرب، وقد كنت واحداً منهم، ولعل أبرز ما أثار اهتمامي النقدي الأكاديمي والتطبيقي هو اهتمام بياتريس بافيز بنظرية التلقي، وله فيها باب هو صاحبه أسس فيه اصطلاحاً جديداً هو اصطلاح جماليات التلقي، وقد أطلق بياتريس بافيز قاموسه للمسرح باللغة الفرنسية ليجدد المصطلح النقدي وفقاً للرؤى الجديدة.
وفي كتابه هذا يأتي مصطلح جماليات التلقي، وهي ترجمة خطية محفوظة عندي قامت بها الأستاذة الدكتورة منى صفوت أستاذ اللغة الفرنسية ومؤسس قسم المسرح بكلية الآداب جامعة عين شمس وما يلي ترجمتها للمصطلح: "يحدد باتريس بافيز تعريف التلقي باعتباره موقف المتفرج، ورد فعله تجاه العرض الذي يشاهده، وطرق استخدامه للمعلومات، التي ترد إليه من خشبة المسرح والتي بواسطتها يتمكن من حل رموز، وكشف خبايا العرض المقدم عليها، ويحدد التلقي كمصطلح عام عبر نقطتين:
أولاً: دراسات الاستقبال:
وهي دراسة حالة تلقي العمل الفني من قبل الجمهور، وتعني بالدراسة التاريخية لطريقة استقبال عمل ما في عصر معين، من جمهور معين.
ثايناً: تلقي أو تفسير العمل من قبل المتفرج وهنا نقوم بدراسة العوامل النفسية والثقافية والفكرية، التي تؤدي بتفاعلها إلى خلق مفهوم معين للنص لدى المتلقي، وكذلك آليات العمل الفني التي تتولد فيها قيم جمالية تحكم عملية التلقي، ودون الوقوع في سيمولوجيا التواصل (وليس المعنى) أو أي نظريات أخرى، قد تحيل المسرح إلى مجموعة من الإشارات المرسلة عمداً إلى المتلقي.
وفي هذا يأتي التلقي وفقاً لمنظور نفسي ليحتوي طرق إدراك وتقييم الفراغ المسرحي، ومسألة التقمص وخلق التوهم واستثارة اللاوعي، والخبرات الجمالية والنفسية الاجتماعية السابقة.
كما يمر التلقي عبر منظور فكري وفيه يدخل كل ما يتعلق بالفكر، ثم يأتي المنظور الجمالي الفكري وفقاً للعصر الذي يقدم فيه العمل، ومفهوم الجمال فيه، البعد الزمني وتأثيره على تقبل العمل، وتفسيره في علاقة العرض بالواقع الاجتماعي للمتفرج.
ويفرق بياتريس بافيز بين الاستخدامات المتعددة لمصطلح التلقي، فهناك بالفعل تلقي المشاهد للعرض المسرحي، والنص المسرحي، وهو موقف اتصال عيني، وفرع من فروع علم الجمال، يجب أن يتضمن وصفاً للعمليات العصبية والجمالية والظروف الاجتماعية لعملية إرسال الدلالات، ولا غنى عن المعرفة المنقولة بهذه الكيفية للتأثير على التلقي الفردي، وعلى التلقي الجماعي.
وترجمة د. منى صفوت لهذا الاصطلاح المفهوم والجوهر والوظيفة ترجمة مطولة، ولكن أكتفي بهذا القدر الذي يشير إلى أهمية نظرية التلقي في علاقتها بعلم الدلالة في عالم النقد المسرحي، وهو تصور يمتد إلى كل أنواع الفنون الدرامية بالطبع، بل ويمتد إلى المشاهد الأخرى، ومنها المشاهد ذات الصلة كالأزياء على سبيل المثال وتعددها ومدى انتشارها وتلقي الناس لها.
ولعل القول الموازي في النقد الأدبي بما اصطلح عليه بالاتجاهات المتجهة نحو القارئ، هو أمر متصل بنظرية التلقي في النقد المعاصر.
وإذ يبقى النقد أحد أدوات ومناهج التفكير المعاصرة فحقاً كل ما نفعل وما نقول ليس فعلاً أو قولاً واحداً، ولكن تفسيره وفهمه وقبوله لدى المتلقي هو ما يمنحه المعنى، في عالم معاصر سمته مراوغة المعنى وتعددية تأويل الدلالة.
وقد كان حضور بياتريس بافيز فرصة كبيرة للحديث عن منجزه النقدي الأثير في نظرية التلقي، وهي حقاً كما عرضتها واضحة وضوح الأسلوب الناتج عن وضوح الفكرة، وتبقى نظرية التلقي بلا شك طريقة تفكير قادرة على تغيير جذري لمفاهيم نقدية عديدة.