

حمدى رزق
الدرس الأخير من عبد الله كمال...
بقلم : حمدى رزق
أن تكون أنت نفسك (صانع الأخبار) خبرًا فى باب الوفيات: «توفى إلى رحمة الله تعالى الكاتب الصحفى...»، ويترحمون عليك : «الله يرحمه».. أن تكون أنت ضيف الفضائيات، خبرًا مفجعًا على «بار» فضائية، تنعيك بـ«فقيد الصحافة»، وتنشر سنك - 94 سنة - صغيرٌ على الموت يا عبد الله .. أن تصبح أنت (صاحب الانفرادات) انفرادًا صحفيًّا يتنافس عليه شباب المواقع، منهم من يعرفك عز المعرفة، ومنهم من لا يعرفك، وكان يُمنِّى نفسه بلقاءٍ قريب.. أنت أنت، ليس غيرك.. صرت تغريدة بجناحين تحمل نعيك تطوف حول العالم، وكنت أنت أنت من تطوف تغريداتك العالم.. نفس الدورة دارت بك، سبحان من له الدوام.
عجبًا: لماذا يرثونه، ميتًا ؟!.. ويتسابقون إلى نعيه، ميتًا؟!.. ويعترفون بفضله، ميتًا ؟!.. ويتشدقون بصداقته، ميتًا!.. فلماذا كانوا ينكرونه، حيًّا ؟!.. ويتخفون من صحبته، حيًّا؟!.. ويتدارون عن جلسته، حيًّا؟!.. والله لو كتب أحدهم نصف عمود من مداد حبره السيال دمعًا الآن فى «مناقب» عبد الله كمال (حيًّا)، لفارق «أبو زينة» الحياة، قرير العينين.. لو فتح أحدهم جورناله لمقال يحمل توقيع «عبد الله كمال»، لرحل «أبو عالية» راضيًا مرضيا.. لو اعترف أحدهم ولو فى تغريدة أو «تويتة» بفضل عبد الله عليه، لفعل خيرًا فى حياة الرجل.. لكافأه حيًّا.. فما أعجب من راغب فى ازدياد ! .. ولو باح أحدهم بما قدمه عبد الله سرًّا، لكان فضلاً عظيمًا منه.. لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل، لاسيما لو كانوا أحياء يرزقون.
درس عبد الله .. وعيت الدرس جيدًا ، أرجوكم ، أرجوكم ، أتوسل إليكم، لا تكتبوا عنى بعد وفاتى.. فلن أقرأ أوراقكم وما تسطرون.. لا تذكروا محاسنى، فلن أرتدى منها شيئًا، ولا تتفننوا فى «مناقبيتى»، فأنا بين يدى الله، سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، جففوا دمعكم، ارفعوا أقلامكم، اطووا عنكم صحائفكم، شاكر فضلكم، وشكر الله سعيكم، كتابتكم بعد وفاته تأدية واجب لن يتبعه أذى، رحل عبد الله وكفى.
كان حضوره مؤذيًّا لغير الموهوبين، كان لافتا فى زمن الباهتين، كان حازمًا مع نفسه والآخرين فى زمن المرخيين، كان متقدا فى زمن العاطلين، كان مغرورًا - عن حق - بصحافته فى زمن يتخفى من تغوطاتهم المنحرفون.. كان يعرفهم واحدًا واحدًا، منحرفًا منحرفًا.. كانوا يخشونه لا لبطشه، أو لغلظة بادية، ووجه متجهم كظيم ، لا .. لأنه كان يعرفهم جيدًا.. شاهدَ انبطاحَهم على عينيه، وانكفاءَهم على يديه، وادعاءَهم العفة، وهم ملاعين.. أُتيح لعبد الله أن يراهم عراة، كما ولدتهم أمهاتهم.. شاهد بأم عينه فسادهم، وانحرافهم.. كان يعرف كثيرًا عنهم ، ولذا خشى منه الكثيرون، وتكالب عليه نفر من المفضوحين، نيابة عن المنحرفين، يناولونه بذات الشمال وذات اليمين.
كتبت (أعلاه ) بدعوة خالصة من الصديق عصام عبد العزيز( رئيس التحرير ) ، وما كنت أنتوى كتابة .. ما لم أكتبه فى حياته ليس له معنى بعد مماته ، إلا ادعاء، و أنا لست من المدعين .. ''باطى والسما''، كما يقولون.. اكتفيت بعزاء فقير من صديق لصديق، استودعته عند الحى القيوم، لا ادعى حبا ، ولم ادعى.. ولن اكذب على الرجل فى قبره .. ربك أعلم بما فى القلوب.. ولا ادعى قربا، لم أكن من المقربين.. ولا ادعى صداقة، لم نكن على وفاق ولو يسير .. كلانا كان يبحر فى طريق .
دعانى للكتابة فى جورنال روزاليوسف الوليد ، ولبّيت النداء حُبًّا فى الوليد ، وانتهت العلاقة الودية قسرا بعد معركة هوجاء مثل طواحين الهواء، لا أعرف لها أصلاً حتى ساعة مماته.. سرها مات معه، الله يرحمه.. وأدها فى مهدها رجل فاضل، له عندى وعند ''عبد الله'' منزلة الأب الكريم، هو ''الأستاذ محمد عبد المنعم''.. تجمدت المعركة، وتجمد كل شىء فى علاقتنا التى كانت قد بدأت مسارا طبيعيًّا للتو ...
لم استرده بعدها ، ولم يسع لاستردادى.. كان فراقنا مقدرًا ومكتوبًا ، كلانا لا يجيد التملق الإنسانى للآخر، ''اللى فى قلبه على لسانه''.. حتى اللقاءات العابرة التى جمعتنا خارج مصر سواء فى واشنطن أو فى الرياض، لم تغسل ما سكن قلبينا، ضحكات باهتة، مجاملات باردة، كنا نجتمع معا لسبب غريب.. كلانا يتعاطى الشيشة!
كان مما كان فى سفرنا هذا، أنَّ من يعثر منَّا على مقهى به «شيشة» يخبر الآخر بأمرها، ولو لم يصحبه إليها!.. طقس الشيشة يحكم علينا فى الغربة كثيرًا.. أحيانا كان يجلس مكانى أو العكس، فقط، ليغادر أحدنا ليلتقى الآخر بالمحبوبة (الشيشة) .
كنت أنتظر لقاءً قريبًا من بعيد، متنسمًا بيت شعر وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا، حتى بيت الشعر هذا خاب توقعى فيه!.. حتما سألتقيه فى الآخرة، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، ولكنى أذكركم وأذكر نفسى بدرس أخير من عبد الله كمال، درس «صعيب»، الدرس الأخير.. من كان يحب زميلا، فليعترف بحبه علنًا، ومن كان يقدر زميلا فليقدره على رؤوس الأحياء، ومن يعترف بالفضل فـ«على العين والراس، مش فى الكراس»!
عبد الله كمال، وعينا الدرس.. لابد أن نستعد جيدا لكتابة خبر الوفاة دون إراقة مزيد من الحبر.. أرجوكم الكتابة عن الأحياء تمد فى العمر، ولو بقدر ثوانى قراءة المقال، الكتابة كالبكاء على رأس الحى، أبقى من الكتابة والبكاء على رأس الميت !!.