عاجل
الخميس 7 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
زمن "ريڨو"

زمن "ريڨو"

بقلم : د. أحمد الديب

إبراهام ماسلو ، عالم نفس أمريكي شهير ، ذاع صيته من خلال ابتكاره هرم الاحتياجات الإنسانية والمسمي باسمه "هرم ماسلو للاحتياجات " ، والذي صنف فيه احتياجات الإنسان إلي حاجات فسيولوجية في قاعدة الهرم مثل الجوع، والعطش، وتجنب الألم، والجنس، وغيرها من الحاجات التي تخدم البقاء البيولوجي بشكل مباشر , وجاءت حاجات تحقيق الذات في ذروة الهرم والتي لن تتحقق دون إشباع الحاجات الأساسية.



 

غير أنني والحق أقول ، لن أتطرق إلي  تحقيق الذات الذي أشار إليه السيد ماسلو والذي يمثل قمة الهرم  ، وإلا سأواجه من النقد ما أدناه أنني من الحالمين الرومانسيين ، وما أوسطه أنني من المهرطقين المارقين ، وما أعلاه أنني أحد المنتمين للطابور الخامس والذي لم يعد يتحمل أعضاء جدد . كل شيء يدعوك إلي ترشيد طموحك ، وإلي بعض التنازلات القسرية في قائمة أحلامك ، وإلي الكف عن التطرق إلي موضوعات تصنف علي أنها محض رفاهية . لذا أعدكم أنني سأتغير تغيراً جذرياً وسأعود أدراجي إلي قاعدة الهرم.

 

وفي قاعدة الهرم ، "ها أنا أوفي بما وعدت " ، أورد ماسلو الحاجات التي تخدم البقاء البيولوجي بشكل مباشر . الصحة من الحاجات الأساسية لا ريب ، صحة المجتمع ضمانة هامة للسلم الأهلي والإستقرار السياسي . لا أقصد هنا تأثير الصحة العامة  علي الإقتصاد بشكل أو بآخر ، ما أعنيه هو أنه من السذاجة أن نلتف حول الحاجات الأساسية المرتبطة بالبقاء ومنها الصحة ونحاول أن نخرجها من المستوي القاعدي إلي مستوي الرفاهة ، وأن نعتبر الحديث فيها أو عنها ليس من أولويات المرحلة ، وهي في الحقيقة أولي من الحديث عن  افتتاح كوبري جديد هنا أو هناك.

 

ولما كانت صحة الأفراد من الحاجات الأساسية والتي تحتل قاعدة الهرم ، فإن الحاجة إلي التداوي تقع في قاعدة الهرم أيضاً . توافر الأدوية بأسعار تناسب محدودي الدخل الذين عزفت الحكومات عن علاجهم في المستشفيات الحكومية هو أمر شديد الاهمية لما تمثله هذه السلعة من أهمية إستراتيجية وسياسية علي حد سواء .  وفي ظل الراسمالية التي تتحكم في كل شيء حتي القرار السياسي   ، فلا عجب أن تستجيب  الحكومة لضغوط شركات الدواء لتقوم برفع سعر الأدوية التي يقل سعرها عن ثلاثين جنيهاً بنسبة عشرين في المائة .

 

  من ينكر أن ثمة أزمة مزمنة تكاد تعصف بسوق الدواء المصري فكأنما يدفن رأسه في الرمال . نشرت جريدة الأهرام الرسمية في عددها الصادر بتاريخ 5 سبتمبر سنة 2015 تحقيقاً بعنوان "اﻷدوﯾﺔ ﺗﺑﺣث ﻋن ﻋﻼج أوﺟــﺎع اﻟﺳــوق" ، وبغض النظر عن ركاكة الصياغة اللغوية للعنوان ، فقد كشفت فيه الأهرام  النقاب عن مشاكل تهريب وغش الأدوية ، وانتقدت منهج ردع الدولة لجريمة التهريب والتي تتمثل في غرامة هزيلة قدرها 10 آلاف جنيه . تناول التحقيق الارتباك الحاصل في سوق الدواء المصري ومشكلة نقص الأدوية دون توفر البدائل ، ثم لجوء شركات الدواء إلي إيقاف بعض خطوط انتاج بالكامل كوسيلة ضغط علي الدولة لترضخ إلي مطالبها برفع أسعار الدواء وقد فعلت.

 

لا شك أن ارتفاع أسعار الدولار والذي كان له بالغ الأثر في ارتفاع  أسعار المادة الخام المستوردة قد أثر بشكل كبير علي متخذ القرار . المعضلة هي أن الأدوية التي ارتفعت أسعارها تمس إلي حد كبير الفقراء من المرضي وكأنما تنقصهم أعباء أخري . تطل علينا الحكومات المتعاقبة بين الفينة والفينة  لتؤكد أنها في انحياز دائم للفقراء ومحدودي الدخل ، لكن الحقيقة هي أن الحال يخالف المقال . لا أحد يهتم بالفقير في هذا البلد الذي يعاني نسبة كبيرة من سكانه من فقر مدقع ، فإذا بهم يواجهون الخزلان بعد الخزلان والعبء تلو العبء والعثرة تلو الاخري.

  

مشكلة الدواء في مصر تحتاج إلي ما هو  أبعد و أعمق  من حلول قصيرة استثنائية ، قد يعالج هذا النوع من الحلول عرضاً لمرض كجرعة المسكن والتي ما تلبث أن ينسحب مفعولها ليبدأ ألم جديد . أما المرض الأصلي فلا يزال يهيمن علي منظومة الرعاية الصحية بوجه عام وعلي السياسات الدوائية بوجه خاص .لا بد أن تضع الدوله " ومن يستطيع سوي الدولة ؟" حداً لمشكلات الدواء المزمنة ، كمشكلات التسعير ونقص بعض الأدوية الهامة ومافيا الأدوية المغشوشة والمهربة ، ومشاكل إستيراد الدواء والمرتجعات من الأدوية منتهية الصلاحية ومشاكل التوزيع.

 

يتمثل الحل في رأيي في إرادة سياسية دافعة  لإنشاء المجلس المصرى للصيدلة والدواء (كهيئة مستقلة ) تتبع مجلس الوزراء وليس وزارة الصحة .
والذي سيقوم بالإشراف علي وضع الأسس والضوابط المتعلقة بالسلامة والجودة والفاعلية ومعايير الحفاظ عليها ، ووضع القواعد الفنية والمواصفات القياسية لعمليات الإنتاج و الرقابة وغيرها.

 

وحتي لا نعيد اختراع العجلة ، لماذا لا ندرس تجارب بلدان شقيقة قطعت شوطا في هذا المضمار كالمملكة العربية السعودية وغيرها. أنشئت الهيئة العامة للغذاء والدواء بالمملكة العربية السعودية بموجب قرار مجلس الوزراء  سنة 2003 ، كهيئة مستقلة ذات شخصية اعتبارية وترتبط مباشره برئيس مجلس الوزراء ، وتناط بها جميع المهمات الإجرائية والتنفيذية والرقابية لضمان سلامة الغذاء والدواء للإنسان والحيوان وسلامة المستحضرات الحيوية والكيميائية وكذلك المنتجات الالكترونية التي تمس صحة الإنسان . يقوم قطاع الدواء بعدد من الأنشطة التي يعزز بعضها بعضاً والتي تهدف إلى حماية الصحة العامة ومن اهم أنشطتها :

 

1- ترخيص عمليات تصنيع الأدوية واستيرادها وتصديرها وتوزيعها وترويجها والإعلان عنها.

2- تقييم مأمونية المستحضرات الصيدلانية وفعاليتها وجودتها وإصدار التراخيص بتسويقها.

3- تفتيش مصانع  ومستودعات الأدوية.

4- وفاعليتها ومأمونيتها . مراقبة الأدوية المتداولة في السوق والتحقق من جودتها

5- رصد ومراقبة الآثار الضارة التي قد  تنجم عن تناول الأدوية.

6- التحقق من سلامة مستحضرات التجميل.

7- بناء علاقة فاعلة مع الجهات الرقابية الدولية والجمعيات العلمية.

8- التوعية والتثقيف الدوائي للمجتمع.

9- وضع الأنظمة واللوائح والمواصفات اللازمة قبل السماح بتسويق الدواء في المملكة.

10- متابعة الدواء بعد التسويق ومنع وسائل التسويق غير المشروعة.

11- إيصال الرسائل الصحية والمعلومات الموثقة عن الدواء للمهنيين والجمهور.

 

نعلم أن الطريق نحو الاهداف التي ننشدها طويل لا محالة  ، ونعلم أن جهوداً مضنية بذلت ولا زالت تبذل . في الحقيقة ، تكمن المشكلة في تحديد الأولويات  ووضع الخطط علي أساسها . الأولويات في رأيي لا بد أن تستند إلي ترتيب الحاجات الإنسانية طبقاً لترتيبها الهرمي الطبيعي . لا بد أن يراعي من يرتب الأولويات هذا السواد الأعظم من المصريين الذين لا يملكون سعر دوائهم ، فإذا بهم يستيقظون ذات صباح ليجدوا أن أقراص الريڨو المسكنة والتي كانت بخمسة قروش في حقبة غابرة ، أصبحت يحسب لها ألف حساب.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز