

عصام ستاتى
الثورة .. مدرسة الشارع والدم
بقلم : عصام ستاتى
عندما كنت ألتقى فى بداية الثورة بصغار السن من الطفولة المتأخرة والمراهقين وقطاع عريض من الشباب وحتى الكبار سواء كانوا ينتمون لتيارات أو لا ينتمون كنت أشعر بامتعاض لطريقتهم وسطحية طرحهم للمشكلات واعتمادهم على ماكينة الشائعات التى كانت دائرة فى هذا التوقيت وتقليد بعضهم لما تطرحه النخب فى الفضائيات وظهور ما يسمى بالنشطاء ، وكنت أخفى هذا الامتعاض بما تدربت عليه من سنوات فى مجال البحث الميدانى .
ولكن بعد فترة وجيزة وجدت أن هؤلاء الصغار يتطورون أما بشكل مقصود من الشخص نفسه ، أو بشكل فطرى ومعرفة سماعية ورغم أن الشهور الأولى المزدحمة كان الغالب على الميدان الشريحة العريضة للطبقة المتوسطة ، ولكن مع قلة الأعداد تدريجياً وعدم مشاركة الأخوان والسلفيين الذين ارتموا فى أحضان المجلس العسكرى ، بدأت أرى بوضوح ولا أستطيع أن أقول أنهم لم يكونوا موجودين ولكنهم ظهروا بوضوح كثير من الشرائح المهمشة وأطفال الشوارع مع عودة بعض المنظرين للنغمة القديمة للحديث عن ثورة الجياع .
ولم أرَ فى ذلك أى غضاضة لأن الثورة ليست حكراً على طبقة أو شريحة معينة كما أن الطبقة المتوسطة طبقة متسعة جداً تمثل ابتداء ممن يستطيع توفير قوت يومه إلى من يصنف فى مصاف الأغنياء ولذا من الطبيعى أن يكون هؤلاء المهمشون فى صف من يطالبون لأنفسهم ولهم بالعدالة الاجتماعية .
تعاملت مع ما يسمى بأطفال الشوارع حاولت مع بعض الأصدقاء توفير أدوات للرسم فى محاولات لإعادة تأهيلهم وكنت أرى أنهم يشعرون مع من فى الميدان بالأمان الذى فقدوه فى المجتمع وعدم إحساس الناس بهم عندما كانوا يشاهدونهم تحت الكبارى وهم نائمون ، وتركتهم الدولة للأجهزة الأمنية تطاردهم وتتعامل معهم مثل تعامل الأروبيون مع الهنود الحمر مع بداية أمريكا أو على أقل تقدير بوصفهم خارجين عن القانون ، ولم يدرك لا الأنظمة ولا المجتمع أن لهؤلاء حقوقاً يجب توفيرها بدلاً من تعطيل طاقات بشرية يمكن أن تساهم فى تنمية المجتمع ولا تكون عبئا عليه ومعرقلة لتنميته .
لم يكن وجود هؤلاء فى الميدان فى البداية من أجل ثورة أو عن وعى مجتمعى يتطلب التغير ولكن كان الهدف وجود مكان بعيداً عن أنظار البوليس الذى يطاردهم وبعيداً عن أيدى من يستغلونهم فى أعمال الاستجداء وربما السرقة وأخذ أتاوات منهم ، لقد وجدوا أنفسهم لأول مرة مع أشخاص يحترمون آدميتهم ، وعندما وجدوا من يحترمون أدميتهم تنتهك آدميتهم بقنابل الغاز والخرطوش والرصاص الحى ويدافعون عن أنفسهم بالطوب وزجاجات الملتوف ، وقف هؤلاء الصِبية يدافعون عنهم لأنهم يمثلون حلمهم فى التغيير حلمهم فى معاملة آدامية ومن هنا بدأ بزوغ وعى اجتماعى فطرى ضد نظام يقهر الجميع ، وأن ما يتم من تغير هو تغير شكلى تغير فى الوجوه ويحمل نفس السياسات الفاشلة وليس تغير يحمل هموم الجماهير ويمتلك بنية وأدوات وسياسات تحقق ما يحلم به جميع من على أرض المعركة ويشكلون الصفوف الأولى والأمامية للدفاع عن هموم هذا الوطن ، فشاركوهم معارك محمد محمود ومجلس الوزراء التى استشهد فيها طفل من هؤلاء الأطفال كنت أعرفه .
ببساطة اختزلت الثورة سنوات من التعلم وهذا ما لم يدركه من هم خارجها فقد أصبح الشارع مدرسة كبرى تتبلور فيه الأفكار والوعى المجتمعى تتحدى الحجج الخائبة مثل هؤلاء ليسوا من كانوا فى 25 يناير وكأن من نزل فى 25 يناير هناك كشوف بأسمائهم وعناوينهم وصدر لهم كارنيهات تفيد بالتحاقهم ، كما لم يفلح التشويه المتعمد من استخدام المخدرات والترمادول وممارسة الجنس فى الخيام وما شبه ذلك أو العودة لمقولات قديمة مثل احذروا ثورة الجياع لأنها ستكون عنيفة ، أليس لهؤلاء الجياع حقوق يجب توفيرها حتى نتجنب عنفهم ونحن نعرف أسبابه وكذلك من مات رفاقهم تطلبون منهم أن يكونوا ودعاء طيبون ، فهل يمكن أن يكون هناك حوار على دم ، فلم يعد الودعاء الطيبون يرثون الأرض لأن الوداعة والطيبة لم تحقق شيئا ، وكيف تطالبون من يمارَس ضده العنف والتعذيب والقهر ألاّ يدافع عن نفسه ، هل تفهمون طيبة شعبنا على أنها استسلام للقهر ، يرد عليكم مثل شعبى يقول " إحنا غلابة لكن ساعة الظلم بنتغابه "
أدركوا أن الشارع ليس ميدانا للهتاف ولكنه مدرسة تفرز أجيالاً قادرة على المواجهة ، مدرسة يعلم دارسوها أن تحقيق أحلامهم من عيش وحرية وعدالة اجتماعية لن يكون إلاّ مع استمرارهم وتواجدهم واستمرار ثورتهم ومدرستهم الملهمة التى أعطتهم دروس الوطنية فتعلموا أن ثمن حريتهم غالٍ جداً لأنه السجن أو الموت ، أنها مدرسة تعلمت بالدم ، تعلمت بما هو أغلى شىء وهو الحياة ، فهل بعد القتل ذنب وهل بعد التضحية بالعمر شىء ، أدركوا أن الثورة صنعت مدرسة الشارع والدم .