استمراراً لمناقشة الاستراتيجية الثقافية المصرية، يأتي السؤال الطموح عن علاقتها بالمحيط الإقليمي والدولي. بل على وجه الدقة وفي إطار أشمل ورؤية معاصرة يجب طرح سؤال الاستراتيجية الثقافية وعلاقتها بالمحيط الإقليمي والدولي طرحاً جاداً طموحاً لا يدخل منطقة الطموح المستحيل، ولا يخضع لتراكمات قادمة من فكرة التوحد بالثقافة الأكثر قوة على الصعيد الاقتصادي والسياسي.
ففي ظل المتغيرات الإقليمية والدولية علينا تأمل المستقبل الثقافي المصري في ضوء عدة حقائق وهى: أولاً: تملك مصر قوة ثقافية عظمى على مستوى الآثار المادية وغير المادية، وتملك اعترافاً دولياً مسبقاً بها، وهى موارد تحتاج لإدارتها وتسويقها.
ثانياً: يبقى الدور الثقافي والتعليمي المصري هو الدور الأكثر تأثيراً حتى الآن في حضور مصر العربي والإقليمي، وهو مصدر كبير لتقدير الدول والشعوب العربية على وجه الخصوص لمصر.
ثالثاً: الدور المصري في نشأة وانتشار الحداثة المعاصرة في المحيط العربي دور تاريخي، يجب إدراكه والحفاظ على استمراريته، وتخليصه مما علق به من شوائب طارئة.
رابعاً: ضرورة تجاوز فكرة الريادة التاريخية نحو فكرة التفاعل الثقافي مع المنارات الجديدة الثقافية في الوطن العربي، وهذا التفاعل يجب أن يتأسس على استعادة الحضور العربي الثقافي والفني في مصر كما كان في منتصف القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، وقد كان حضوراً طبيعياً وساهم في خلق حالة من التنوع والازدهار لا يمكن إنكارها.
خامساً: ضرورة إدراك أن وسائل التواصل في المجال الثقافي مع ازدهار الثقافة الرقمية يتيح جمهوراً أكبر وسوقاً لا حدود له عبر استخدام التقنيات الحديثة في الصناعات الإبداعية.
ويمكن فهم الأمر في المحيط العربي والإقليمي والدولي بفهم معاصر لفكرة الثقافة في عالم متغير في إطار فهم الثقافة المصرية في علاقتها بالثقافات المختلفة، والعلاقات داخلها وداخل كل ثقافة مغايرة، عبر فهم علاقة الثقافة بالأداء، فالثقافة هي في ظاهرها في عالمنا المعاصر أداء، وللأداء مناح عدة.
ولأنهما أداء، فكي نستطيع المشاركة في الثقافة العالمية علينا البحث عن المشتركات الثقافية المصرية مع مشتركات الأداء في الثقافة العالمية.
وهو ما سيجيب عن أسباب انتشار وتأثير ثقافات محلية بعينها ودورانها حول العالم.
وأبسط وأشهر تلك الأداءات هي شخصية البطل المنقذ في السينما الأمريكية على سبيل المثال، ولذلك فيجب أن نطرح سؤال المشترك الثقافي المعاصر.
وهو سؤال يبدأ من فرض مبدئي يجب اختباره عند وضع السياسات الثقافية مع المحيط العربي والإقليمي والدولي.
وهذا الفرض يرى أن المواقف الثقافية المتنوعة هي وسط ثقافي واحد، يسبق كل الثقافات ويمر عبرها، هو داخل كل أنواع السلوك الثقافي المختلف للمؤدين الفاعلين، ذلك لأنه يوجد أساس ثقافي مشترك يسبق كل الثقافات.
وهذه الثقافة السابقة لكل الثقافات هي التي تضع المشترك الثقافي الإنساني القادر على الانتشار عالمياً.
هناك أداء ثقافي عالمي مشترك لا يمكن الهرب منه، أما الحفاظ على الهوية أمر وطني أيضاً لا يمكن الهرب منه. إلا أن الحفاظ على الهوية الثقافية يجب أن يجعلها دائماً في حالة تفاعل ثقافي مع العالم الخارجي، فقد بات الأمر بعيداً عن حرية الاختيار.
فقد أدت التطورات العلمية والتكنولوجية لحدوث اختراقات جذرية، وقد أدت تلك الطفرات العلمية إلى ثورة اجتماعية كبرى غير مسبوقة في التاريخ الإنساني.
أتاحت السلع والخدمات ومنها الصناعات الثقافية والإبداعية من كل الأنواع وكل المستويات لمن يطلبها.
مما أدى لحدوث تغير جذري لم يكن يخطر على بال أحد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى الآن، في مجال تلاقي الناس والثقافات والفنون، وكان مثل هذا السوق العالمي للثقافة والفنون قبل ذلك ضرباً من ضروب الخيال.
إنه إذن حقاً توافق إدراكي جماعي جديد علينا الوعي به وفهمه ومخاطبته وإعادة إنتاجه.
كما يمكننا أيضاً إدراك خاصية هامة في ذلك المشترك الثقافي الدولي، وهي أن التلاقي والتداخل القومي والعالمي، وما إلى ذلك ليس ثنائي الطابع، أو واضحاً في تفاعلات ثقافية يمكن رصدها بسهولة في عالم أصبح التعقيد أحد أهم سماته الأساسية، فالوعي الإنساني أصبح متداخلاً ومتزايداً نظراً لتكاثر كيانات الواقع وتزايد تشابكها مما أدى إلى انفجار معلوماتي أو معرفي.
وذلك عبر تعاظم غير مسبوق في كمية البيانات والمعلومات التي يتعين على الإنسان جمعها واستخلاصها وحفظها ومعالجتها.
وفي ذات الوقت ووفقاً لتزايد الوعي الزائف أيضاً، حدثت ظاهرة اللايقين والشك في كل المعطيات المتاحة، بل والاسترابة أيضاً.
مما يدفعنا للقول بضرورة النظر بجدية لوجود نظرية التفاعلات الثقافية العولمية.
وذلك للمشاركة في تلك الثورة الثقافية المعاصرة التي لا تهدأ، وهى تتجلى في مسألة الظواهر المتصلة من الصور الرقمية والتقنية والإعلامية والفكرية والروحية.
مما يجعل التفكير في مستقبل الثقافة المصرية في تفاعلها الإقليمي والدولي يدخل بها لضرورة الشك في مسألة الخصوصية ذات الطابع العالمي، والعالمية ذات الطابع الخاص.
إذ أن العلاقات الثقافية الدولية تتفاعل تفاعلاً جديداً يتأسس على البحث عن المشتركات الأساسية رغم الاختلاف.
مما يدفعنا بالضرورة لإعادة النظر في المشاركات المهرجانية والندوات والمؤتمرات ومعارض الكتاب الدولية فقط، وما إلى ذلك من أنشطة تقليدية نحو البحث عن أسواق جديدة للصناعات الإبداعية والثقافية المصرية.
وذلك كي نشارك في صناعة المشهد الثقافي العالمي ونحقق العوائد المرجوة على كل المستويات.



