في تأملي المتواتر لمسألة استعادة قيمة وجوهر وتأثير الفنون التعبيرية المصرية، وفي القلب منها المسرح.
وفي ظل حيرة يمكن ملاحظتها لدى جهات الإنتاج المسرحي الرسمية والمستقلة التي خفت بريقها.
تطل من ذاكرتي بعض من التقاليد المسرحية الراسخة، ربما يكون التذكير بها أمرا بديهيا، لكنه يبدو منسيا ويحتاج إلى التذكرة به.
ألا وهو الريبرتوار المسرحي، وهو مصطلح مسرحي متخصص يشير إلى الرصيد المسرحي المصري التاريخي، والأعمال المسرحية الناجحة التي قدمتها الفرق المسرحية المختلفة.
وهي أعمال ذات جودة فنية رفيعة المستوى، فقط تحتاج لإعادة الإنتاج.
إذ لا يمكن أن ندخل للمستقبل المسرحي الفني، دون الإرتكان لتاريخ مشترك من الأعمال المهمة.
وكانت فرق مسرح الدولة منذ سنوات قريبة تزاوج بين إنتاج الأعمال المسرحية الجديدة وبين إعادة إنتاج المسرحيات القديمة الناجحة.
وجدير بالذكر أيضاً ضرورة العودة للمركز القومي للمسرح والسينما والموسيقى.
وبه كنوز مسرحية محفوظة، وأيضاً مسرحيات مكتبة التليفزيون المصري، والتي تحتاج لمراجعة وتوثيق وترميم، وإعادة حفظ عبر وسائل الرقمية الحديثة.
وذلك حتى لا نفقد التاريخ المسرحي المصري شديد الثراء.
وللحفاظ عليه واستعادته حيا من جديد كي يراه المشاهدون الجدد من أجيال جديدة، تسمع عن تلك الإبداعات وتقرأ عنها، ولكنها لم تشاهدها، يجب إعادة تقديم ذلك الريبرتوار بشكل ممنهج ومنتظم ودوري جنبا إلى جنب، مع الإنتاج المسرحي الجديد.
ويمكن ملاحظة ذلك النموذج في عرض الليلة الكبيرة الذي يقدمه إلى الآن مسرح القاهرة للعرائس، ويحقق نجاحاً كبيراً كلما تم عرضه.
ولعل ذلك هو السبيل الواضح لمقاومة تراكم تيار مسرحي يلجأ للسهولة المفرطة، ومعه بعض من العروض النخبوية محدودة الجمهور والتأثير.
ولذلك فعروض الريبرتوار المصري هي تلك الشمعة القادرة عند إنارتها على تبديد ذلك الظلام المتراكم لتيار الضحك الخشن بلا معنى.
وجدير بالذكر أن إعادة تقديم العروض القديمة التاريخية الآن يجب أن يبدأ بشكل ممنهج عبر دراسة حالة تلقي الجمهور لتلك الأعمال الفنية، وأعني بها بالتحديد الدراسة التاريخية بطريقة استقبال عمل ما في عصر معين، من جمهور معين.
مما يساعد في إعادة إنتاجها بشكل معاصر لجمهور جديد.
وهى المسألة الضرورية للحفاظ على التراكم الجمالي والمقدرة على مراكمة خبرة فنية، والحفاظ على مقدرة الجمهور العام، خاصة من الأجيال الجديدة على التذوق الفني السليم.
حتى لا تحدث فجوة كبرى معرفية وجمالية من فرط الاعتياد على الموجات المسيطرة لذلك النوع السهل جداً لمسرح التسلية، خاصة أنه يتم صبغه الآن بطريقة جديدة فاخرة تقوم بتسليعه من جديد، كخدمة ترفيه وتسلية بل وكتميز اجتماعي عبر استخدام شباك تذاكر جديد لم تعرفه مصر من قبل بأسعار خيالية بالنسبة لقدرات معظم المصريين المالية، خاصة أفراد الطبقة المتوسطة المصرية المعتادين على عادة الذهاب لمشاهدة المسرح.
وبالتالي فالحفاظ على الاتصال الثقافي بين المنجز المصري الحضاري القريب من الأعمال الهامة ضرورة لمواصلة التربية الجمالية في فعل المشاهدة والتلقي.
ذلك لأن فعل التلقي ليس فعلاً مضارعاً الآن فقط.
لأن فعل التلقي بشكل نقدي هو فعل يتعامل مع جماليات التأثير الناتجة عن تلقي الأعمال الفنية بشكل تاريخي أيضاً، وإلا فالتلقي يبدأ كفعل جماهيري الآن وهنا، وهذا أمر مستحيل لأن الخبرات السابقة تحكم مسألة تلقي الأعمال الفنية الجديدة.
وهذا التصور ليس تصوراً مثالياً فهو، التصور الذي تتأسس عليه الخطط المسرحية في معظم البلدان الحريصة على جعل عادة الذهاب إلى المسرح عادة اجتماعية منتظمة.
وهي المسألة التي يجب فهمها في إطار نقدي، وهو التوجه نحو الجمهور.
وهو تصور يمكن صياغته في خطط وبرامج تنفيذية عبر تأمل عدداً من الخطوات الإجرائية، ومنها :
أولاً : دراسة الخبرة الجمالية للجمهور المعاصر عبر مراجعة ماذا شاهد من الأعمال المسرحية، وماذا يحب من الفنون التعبيرية الأخرى.
ثانياً : من نتائج الدراسة السابقة، يمكن التفكير في فهم أفق توقع وترقب الجمهور، كي يتم التفكير الجاد، في كيفية مخاطبته نحو تحسين ذائقته الجمالية.
إذ لا يمكن وضع تصورات إبداعية معاصرة، دون فهم الأطر السابقة والأعمال السابقة التي شكلت أفق توقع وترقب الجمهور.
ثالثاً : دراسة الأثر الجمالي الذي تحدثه الأعمال الجديدة من خلال تأمل المسافة الجمالية بين الأعمال الكبرى المتفق على مكانتها، وبين الأعمال المنتشرة الآن.
رابعاً : الاهتمام الجاد بمعاودة السؤال عن الوظيفة الاجتماعية للإبداع وللكتابة وللنقد.
وهى الوظيفة الهامة التي تخلق مشتركات ثقافية وعلامات يتم تداولها بين مختلف أطياف المجتمع.
كما يجدر الذكر بأن النقاد والمحررين النفسيين وكتاب الرأي يعبرون عن الجماعة الثقافية على تعدد وجهات نظرها.
إلا انهم في النهاية يمثلون جماعة ثقافية بعينها، ولا يمكن الإرتكان إلى تقييمهم للأعمال الإبداعية كرأي وتفسير نهائي، بل يجب دراسة الجمهور، وأفعال التلقي المتعددة التي تمثل تعدداً واضحاً هو تعبير عن تعدد الفئات الاجتماعية ذاتها، وبالتالي فمن الضروري تأمل آفاق توقع وترقب الأنماط المختلفة من الجماهير والتعامل مع هذا التعدد بموضوعية تسمح بالمقدرة على جعل فعل التلقي الجماهيري فعلاً له تاريخ جمالي تراكمي.
ومن هنا تأتي أهمية الريبراتوار المسرحي ليصل الماضي بالحاضر سعياً لتحسين الذائقة الفنية لأجيال جديدة هي صانعة المستقبل.



